تقول الأخبار الواردة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إن محطة فضائية جديدة يغلب على برامجها الطابع الترفيهي، شرعت في البث منذ سنة فقط، استطاعت أن تربك القيادة السياسية في البلاد، وتحدث ما يشبه حالة طوارئ معلنة في أوساط المسؤولين، بعد أن بينت دراسة رسمية أن هذه القناة أصبحت تستقطب نحو 35 مليون مشاهد، أي نصف النسيج السكاني للمجتمع الإيراني. القناة الإيرانية التي تبث من دبي، تعود لمجموعة ''موبي غروب''، وتديرها عائلة أسترالية من أصل أفغاني، وهي العائلة نفسها المالكة لتلفزيون ''تولو'' وراديو ''آرمان'' في أفغانستان، أصبحت بحسب تقارير إيرانية رسمية، مصدر قلق للسلطات الإيرانية، لأنها '' أولا''، تبث من خارج البلاد، ومعنى ذلك أن التحكم فيها صعب، و''ثانيا''، لأنها سرقت الأضواء من التلفزيون الحكومي الذي يخضع لقيود سياسية وفكرية ''كما في سائر الدول، والدول المتخلفة على وجه الخصوص''، حتى أنها أصبحت مصدر نقاش مستمر في كافة أرجاء الجمهورية، بين مختلف شرائح المجتمع، وأكثر من ذلك، يضيف تقرير صادر عن حرس الحدود الإيراني، أن القناة '' الظاهرة''، أصبحت سببا مباشرا في تفاقم ظاهرة تهريب أجهزة استقبال البث الفضائي داخل إيران خلال الشهور الأخيرة، رغم أن قانون الجمهورية يمنع استعمال هذه الأجهزة ويجرم مخالفه. أمام تزايد الرعب من هذا الوافد الإعلامي الجديد الذي استقطب نصف المجتمع الإيراني، انعقد مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران، وهو هيئة استشارية غير رسمية تابعة للزعيم الروحي في إيران، آيت الله الخميني، لبحث حقيقة هذه القناة، ولكنه لم يتوصل في الأخير سوى إلى نتيجة حتمية مفادها أن رواج القناة الجديدة، هو نتاج ضعف التلفزيون الحكومي، وهو استنتاج طبيعي قد لا يحتاج إلى خبراء في الإعلام، لأن التلفزيون أصبح واقعا وحتمية في حياة أي مجتمع، كونه يملأ الفراغ (والطبيعة تأبى الفراغ)، وكونه يمثل مرآة تعكس واقع المجتمع، أي مجتمع. معلوم أن الإعلام (المرئي منه خاصة)، في أي مجتمع، ومهما كانت طبيعته، يمثل سلاحا ذا حدين، لذلك تصرف كثير من الحكومات ميزانيات ضخمة على هذا الجهاز في مقابل تسخيره لخدمة سياسات معينة، ويدخل ضمن هذه السياسات ما يسمى بالخدمة العمومية التي تمثل جسر تواصل بين الحكومة والمجتمع. بدأ مفهوم الخدمة العمومية يتسلل إلى وظيفة التلفزيون متأخرا، مقارنة بظهور تكنولوجيا المرناة ''التلفزيون''، مثلما تتفق كثير من المراجع التي تنطلق من حقبة الخمسينيات، عندما استقطبت حملة الرئاسيات الأمريكية بين كينيدي وريتشارد اهتمام ثلاث أكبر قنوات أمريكية، ويومها غطى البعد السياسي في وظيفة التلفزيون على مفهوم الخدمة العمومية، عندما مال التلفزيون إلى السياسة ورجح كفة المرشح كينيدي على منافسه. ومع أن البث التلفزيوني بدأ في كثير من الدول صاحبة السبق في هذه التكنولوجيا في حقبة الثلاثينيات، غير أن بريطانيا كانت السباقة في تجسيد ما يعرف بالخدمة العمومية في التلفزيون، وذلك في بداية الخمسينيات عندما استقطب التلفزيون اهتمام الطبقات الاجتماعية المثقفة، على عكس الصين مثلا التي دخلها التلفزيون لأول مرة في عام ,1958 وبدل أن يكون هذا الجهاز طفرة ثقافية، تحول إلى وسيلة للدعاية السياسية والشعارات التي ينتجها النظام السياسي الذي شن عملية حصاد أتت على خيرة المثقفين الصينيين في مختلف الحقول الثقافية من خلال ما يعرف بالثورة الثقافية في الصين'' منتصف الستينيات'' . في البلاد العربية خاصة، ودول العالم الثالث عموما، الأمر يختلف تماما، والحديث عن الخدمة العمومية في التلفزيون، يكاد يقتصر على الجانب النظري فقط، ولعل أبرز الأسباب في ذلك، هو أن مفهوم الخدمة العمومية لم يفصل فيه بعد، وانظروا إن شئتم إلى منتوج سائر تلفزيونات هذه الدول، ولو فعلنا ذلك من باب المقارنة، أو حتى الفضول لوجدنا أن التلفزيونات الحكومية ترجح الوظيفة السياسية في ما تقدمه من برامج وتعتقد أنه يدخل في إطار الخدمة العمومية، والقنوات الخاصة بدورها ترجح الوظيفة التجارية في منتوجها الذي تسوقه للجمهور تحت مسمى الخدمة العمومية، ولكل طرف من الطرفين حججه وتفاسيره، وهي حجج وتفاسير في الغالب تصطدم برغبة المشاهد الذي يبحث عن نفسه في أي قناة تلفزيونية وعن شخصيته واحتياجاته، الثقافية منها، الاجتماعية، السياسية والاقتصادية، فإن لم يجدها في هذه الجهة، مال إلى الطرف الآخر، تماما كما حدث مع جمهور القناة الإيرانية الحديثة، وشعاره في ذلك ''تلفزيون للحكومات، وآخر للشعوب''.