إن تربية النفس على ترك ما لا يعني معين على تركيز الذهن والفكر والشعور والنظر والقول والعمل في الاهتمامات الواجبة والمستحبة، بدلاً من تشتيته في أوديةٍ وشعابٍ لا حصر لها؛ فإن السمع والبصر رسولان للقلب ينفذ من خلالهما الكلام والصور، فتنطبع في القلب وتشغله بتحليلها حتى يمتلئ بالفضول؛ فلا يبقى فيه مكان لِهَمّ فاعِلٍ ومفيد.إنّ بالانشغال بالمفيد ينال الإنسانُ به الحكمة؛ قيل للقمان عليه السلام: ما حكمتك ؟ قال: لا أسأل عما قد كُفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني. وبترك ما لا يعني يُدرَك الحِلْم. قال معاوية لرجل: ما بقي من حلمك ؟ قال: لا يعنيني ما لا يعنيني. وبترك ما لا يعني والانشغال بما يعني يرتقي المرء إلى السيادة ويمتلك الزمام ويترقى في مناصبه؛ قيل للأحنف: بِمَ سُدْت قومك، وأنت لست بأنقبهم ولا أشرفهم ؟ قال: لا أتكلف ما كُفيت، ولا أضيع ما وليت. وكما أن ترك ما لا يعني يفيد في الدنيا فإنه كذلك يفيد في الآخرة. قال زيد بن أسلم: دُخل على ابن أبي دجانة وهو مريض ووجهه يتهلل، أي علامة البشرى والسعادة على وجهه؛ فقال: ما من عملي شيء أوثق في نفسي من اثنتين: لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليماً.وهذه توجيهات تُُعين على ترك ما لا يعني والانشغال بما يعني:فأولا: استفراغ الوسع في معرفة ما يجب على المرء، والاجتهاد في أدائه: ففي ذلك شغل شاغل عما سواه؛ فمراقبة الزوجة والبنت والأسرة وإصلاحُ الفاسد فيها؛ يشغلك عن التعليق على ما فعلته النساء أو لبسته ويقيك عن الخوض فيما لا يحلّ لك. قال شميط العنسي: من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك ما لا يعنيه.ثانيا: دوام مجاهدة النفس؛ قال مورِّق العَجْلي: أمرُُ أنا في طلبه منذ عشرِ سنين لم أقدر عليه، ولست بتاركٍ طلبه ... قالوا: ما هو يا أبا المعتمر ؟ قال: الصمت عما لا يعنيني. بمعنى أن ترك ما لا يعني شيء صعب؛ لكن لن أتوقف عن محاولة ترك ما لا يعنيني. ولقد بلغ ببعض السلف أن عاقب نفسه على ذلك؛ مرَّ حسان بنُ أبي سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك، لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.ثالثا: الاستعانة بالله تعالى ودعائه والتضرع إليه؛ ولا بد من ذلك للسالكين؛ فها هو قوله تعالى:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يُتلى في كل ركعة، وها هو نبي الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعُك، واستعن بالله ولا تعجز).رابعا: دوام مراقبة الله عز وجل؛ فقد وعظ عطاء بن أبي رباح أصحابه فقال: إن من قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد لك منها، أتذكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ؟ أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهارِه وليس فيها شيء من أمر آخرته ؟. كذلك من استحضر موقف الحساب وتخيل حقيقة الإفلاس إلا من عمل الصالحات أخذ الأمر بمأخذ الجد، وتأهب بما يجب:(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). فاعتن بما يعنيك واترك ما لا يعنيك؛ والله المستعان، وإليه المرجع والمآب.