رحم الله شهداء قافلة الحرية ورزق ذويهم جميل الصبر والسلوان وشفى الجرحى وفكّ عقال من لا يزالون أسرى. ما يحزّ في النفس أن يسيل الدم مرة أخرى جرّاء نوبة جديدة من البارانويا والغباء نتيجة الإيمان بأن الآخر لا يفهم إلا القوة وذلك رغم المرات التي لا تحصى المكذبة لهذه المقولة السخيفة الخطرة. لكن ما يخفف من الألم أن التضحيات الجسام لأبطال قافلة الحرية، ومنها الدماء الزكية التي أريقت عبثا وإجراما، لم تذهب سدى وهي تحقق إنجازات لم يكن يتوقعها أحد، لنعدّد أهمها. ثمة في البداية عودة الأمل للمحاصرين الذين كاد العالم ينساهم في خضم مآسيه المتجددة إلى ما لا نهاية. من لا يعرف أن اليدين الموضوعتين حول عنق غزة هما يد إسرائيل ويد النظام المصري وأن عملية الخنق كانت بتنسيق بين اليدين؟ ها قد تراخت يد النظام المباركي بعد شعوره بأن هناك خطر قطعها من طرف الشعب المصري الذي بدأت كل العلامات تنذر بأن صبره قد نفذ. وثمة انهيار الأسطورة الإسرائيلية التي تعهدها الصهاينة منذ قرن بمنتهى العناية والحرفية حول الشعب المسالم الصغير المحاصر. ها هو العالم يفيق أخيرا للحقيقة ليعلم من الضحايا ومن المعتدون. من لا يقدر أيضا قيمة التحول في موقف عدد متزايد من اليهود نتيجة هذه الفضيحة؟ وتعبر أحسن تعبير عن نظرتهم الجديدة لإسرائيل الكاتبة الفرنسية استر بن باسا التي كتبت مؤخرا أنه لم يعد بوسع اليهود التغطية على جرائم إسرائيل. إن شماعة المحرقة انتهت، إن سياسة الحكومة الإسرائيلية تشكل أكبر خطر على اليهود بتسببها في عودة "اللاسامية". ثمة أيضا وجود غربيين ويهود وحتى نائبة إسرائيلية في الكنيست على متن القافلة. إن الأمر أوضح علامة على أن الصراع ليس كما يريده المجانين والأغبياء حرب أعراق وديانات وحضارات وإنما هو صراع سياسي بين بشر وقف شق منهم في صف غطرسة القوة وشق آخر في صف مطلب مزيد من الإنسانية لعالم على باب قوسين أو أدنى من العودة إلى الهمجية. أخيرا لا آخرا ثمة إنجاز يعتبره كاتب هذه السطور أكبر غنم من العملية هو دق مسمار جديد في نعش الاستبداد العربي الذي سنطوف به يوما مهللين مزغردات في شوارع كبرى مدننا وقد تخلصنا ولو لبعض الوقت من أسوأ من فينا، من أسوأ ما فينا. نعم، ليعذرني القراء إن عدت مرة أخرى للتأكيد على أن نظام القائد الأوحد والمخابرات العديدة والفساد المتغلغل والتزييف المضحك والتبعية المشينة والقطيعة مع النخب والخوف من الشعب... هو العدوّ الأخطر –حتى وإن لم يكن الوحيد- للشعوب العربية لأنه يمنعها من التقدم والكرامة، والعدو الأول للأمة لأنه يمنعها من التوحد والعزة. هذا النظام هو الذي خرج من هذه الحادثة مهزوما ذليلا مطأطئ الرأس. عشية هزيمته في واترلو تعزى لنابليون جملة شهيرة: "ضاع كل شيء ما عدا الشرف"، أما زعماؤنا فيمكنهم القول من الآن ضاع كل شيء وعلى رأسه الشرف... ربما لأنهم خلطوا بين الشرف والتشريفات. ها قد ظهرت مرة أخرى "قزميته" بجانب "عملاقية" النظام التركي ممثلا في شخص أردوغان. كلنا نعلم مدى ما يحظى به الرجل من شعبية خارقة منذ الجريمة الكبرى ضد غزة سنة 2008. منذ تلك الفترة وهو في موقع متميز من القلوب والعقول العربية وكنت كتبت مقالة بعد مواقفه النبيلة بعنوان "بالله يا إخوتنا الأتراك أعيرونا أردوغان" ها هو يعود مجددا للساحة ليصبح الرمز لكل ما هو مفقود ومبحوث عنه في نظامنا السياسي العربي. أي زعيم عربي يستطيع من منبر برلمان حقيقي وممثل للشعب لا للزمرة والعصابة والقبيلة والحبايب أن يضرب بقبضته على الطاولة ليقول بلغ السيل الزبى ويجب على الكل أن يعرفوا أنه إذا كان العرب أحسن الأصدقاء فإنهم يمكن أن يكونوا أصعب الخصوم؟ من يملك الجرأة على أخذ القرار الوطني المستقل؟ من له قدرة الغضب على وضع لم يعد مقبولا إنسانيا؟ طبعا لا أحد وكل ما قدر عليه مستعبدونا بيانات باهتة واجتماعات روتينية واستعداد أمني غير مسبوق إذا تطورت الأمور في الاتجاه الذي يشكل الهاجس الأكبر. لا يمكن أن نفهم الشعبية الخارقة لأردوغان إن لم ننظر لما تعبر عنه هذه الشعبية من رغبات لم تعد مكبوتة وما تحتوي عليه من أوامر صامتة لن تصمت طويلا ومن ثمة ضرورة تفكيك الظاهرة لننظر إلى أعمق من الشخص و أبعد من اللحظة. بداهة ثمة إجماع على الرجل من طرف الجزأين المكونين للعقل السياسي الجماعي. هو يرضي في "الطفلانيين" حاجتهم للأب القوي الصارم، القادر على الغضب عندما يمس شرفه. هو يعطي صورة الأب العادل المحب المحترم لأبنائه والذي لا يفعل شيئا إلا لمصلحتهم لا لمصلحته الشخصية أو لمصلحة العصابات التي تسند حكمه. وهو يرضي أيضا حاجة "الناضجين" الذين لا يكرهون شيئا قدر كرههم للأبوية حتى ولو كانت عادلة والمؤمنين بأنه لا مخلّص إلا نظام مبني على القيم والقوانين والمؤسسات لا على طبائع الأشخاص المتغيرة وأهوائهم المتقلبة. هذا الجزء من العقل السياسي الجماعي منبسط من أردوغان لأنه يعلم أحسن العلم أنه لا يحكم بأجهزة القمع وإنما ضدها، وأنه ليس بحاجة للتدليس والتزييف والكذب لأنه لا يستند على عصابات وإنما على شعب يستمدّ منه شرعيته عبر انتخابات حرة ونزيهة ويعود إليه دوريا كلما تعاظمت حوله الأخطار، إنه لا يتلقى تعليماته من أي طرف وليس واليا ووكيلا معينا ومدعوما من الدول الكبرى وإنما هو حر في قراره. قد تكون هذه التوليفة بين الشخصية القوية والنظام الديمقراطي القوي بقيمه وقوانينه ومؤسساته هي سرّ الإجماع العربي حول أردوغان. فبالنسبة للعقل السياسي العربي هذا النموذج هو الذي يجب أن يتحقق. والجمع بين الاثنين هو الحالة المثالية للنظام السياسي في كل زمان ومكان. لنتذكر أننا كنا في القمة عندما اجتمعت الشورى والشخصية للفاروق، إن بريطانيا عرفت أوج عظمتها وهي تقاوم النازية وتنتصر عليها وعلى رأس أقدم ديمقراطية عجوز اسمه تشرشل وكذلك فرنسا التي عرفت أوج مجدها في القرن الماضي والجمهورية في عهدة رجل اسمه ديغول. بالمقارنة يتضح أن عمق انحطاطنا هو نتيجة توليفات كل واحدة منها أفسد من الأخرى: - توليفة الشخصية القوية، النظام الاستبدادي في عهد عبد الناصر وبورقيبة وبومدين, أدت إلى استشراس الأجهزة وموت المؤسسات ومن ثم ظهور الفساد وبقية الأمراض التي نخرت في أجهزة الدولة وفي المجتمع. - توليفة الشخصية الضعيفة، النظام الاستبدادي: التي نعيش في ظلها وهي نتيجة الأولى فالاستبداد يلغي كل الشخصيات القوية حول المستبد الذي تترعرع حوله مثل الطفيليات كل الشخصيات التافهة والمتملقة وهذه هي التي ترث المستبد صاحب الشخصية القوية، فإذا بها تتخبط في جبة أكبر من حجمها وإذا بها تفاقم كل سلبيات النظام الاستبدادي دون أي من "منافعه". - توليفة الشخصية الضعيفة، النظام الديمقراطي. إنها التي شاهدناها عقب الانتخابات الموريتانية في 2007 وراح ضحيتها رجل طيب لم يكن قادرا على لجم الذئب الاستبدادي الذي كان يتربص به. كل هذه التوليفات التي مررنا بها والتي تشكل تجاربنا المريرة هي التي نشاهد فشلها المخزي عبر أنظمة أهدرت طاقاتنا وشرفنا وكلفتنا مئات الآلاف من المعتقلين وملايين المهجرين وكم من آلام لا أحد قادر على تتبعها وإحصائها. فجأة يبرز في الظلام الحالك رجل ليس منا ومع هذا نحس باقترابه الشديد منا ومن قضايانا ليعطينا وصفة لنظام سياسي يعيد للشعب سيادته وللمواطن كرامته وللدولة شرعيتها وللوطن استقلاله، وصفة لم يعد فيها الشخص القوي بديلا للمؤسسة وإنما هو خادم لها يستمد قوته من قوتها والهدف رفعة الوطن لا التكديس والتوريث. سنة 2009 رفع الشباب التونسي شعار "شافيز مرشحنا" بمناسبة قرب "الانتخابات الرئاسية" وكان شافيز يومها أيضا بطلا قوميا عربيا بعد وقوفه مع قضية أهلنا في غزة. لا شكّ أن أردوغان هو اليوم أفضل مرشح "للانتخابات" المصرية سنة 2011 و"للانتخابات" التونسية سنة 2014 ولأي "انتخابات" تقام هنا وهناك لنوبة جديدة من التزييف الذي أصبح أي حلقة أخرى من الكوميديا الحزينة المفروضة علينا من مهرجين مخرفين. الثابت أن وراء الشعبية الخارقة التي يحظى بها الزعيم التركي أوامر واضحة لكل من يريد في المستقبل شرف الزعامة والقيادة والأمر كالآتي: إن أردت العار لاسمك والانحطاط لشعبك وكرهنا واحتقارنا فعليك بسكة حسني معمّر بن علي وأشباههم، أما إن أردت المجد لشخصك والرفعة لشعبك ناهيك عن دعمنا ومحبتنا فاتّبع طريق رجب طيب أردوغان.