تشتغل المجموعة القصصية "سيراميك" على ترتيب مفاهيمية الأنثى كإرادة سردية ممتحَنَة في وضعها المستكين، لهذا تأخذ السردية تأنيثها ليس من المقاربات المتاحة في التقابل مع الذكورة، ولكن في تصنيفها المتعلق بأشياء الأنثى المؤثِّرة والمفجّرة لوجوديتها المجروحة كانفصال، يعتمد في انبثاقه على التواصل الأنطولوجي مع الآخر، وهو ما تقدّمه المجموعة من خلال الوحدة السردية في نص "انكسار": "ليتك تدري ما كان أصعب بعدك عنّي بعد تلك اللحظات بالذات ليتك تدري حين سلختني عن ذراعيك كيف تمدّد العفن فوق جسدي.."/ص8، وهو ما يتوافق مع إصرار سيمون دو بوفوار "على أنّ تعريف المرأة وهويّتها تنبع دائما من ارتباط المرأة بالرّجل فتصبح المرأة آخر يتّسم بالسلبية بينما يكون الرّجل ذاتا سمتها الهيمنة والرّفعة والأهمّية"1. ومن خلال آخرية الرّجل المفترضة المهيمِنة، تبرز إشكالات التنافر في العلاقة بين الرّجل والمرأة في مستوياتها الأشد امتثالا لتأكيد الوجود الأنثوي في تعالقاته الفكرية، انطلاقا من الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذا أنا موجود" حيث الاستدلال على الأنا الوجودي بالوجود الفكري. الغيرية / الآخر المشبوه: تفتتح أمان السيد المجموعة القصصية بعتبة غير مصنّفة، بمعنى ليست إهداء، ولعل عدم التصنيف يعكس مدى القلق في ترتيب النص لنسج سردية الأنثى المواجِهة. تتمثل العتبة في نص شعري يستلهم الليل كموضوعة تُحرِّر مناجاة كما يسمّيها الناقد الجزائري السّعيد بوطاجين، وليس منولوج، هذه المناجاة تضع العلامتين السرديتين الأنا الأنثوي والليل في مقابلة توليدية لخيبة أنثوية حينما تنفتح على نفي الأذن عن الليل، بمعنى انتفاء السّكون، وهو ما يجعل المقاربات بين المرأة والليل قائمة عند "الوحدة الدلالية"2 المتمثلة في السكون، لكنّ الليل يتعدّى السّكون إلى الاشتباه على أساس أنه فضاء للسّكون ومثير للغموض، والحركة داخله تفجّر الإشتباه، ومن هنا تتماثل وجودية المرأة المشبوهة من خلال مستوى السّكون في تكوينها النّفسي، وغموضها الذي يجعلها عرضة للاتّهام على أساس الضعف، وهو ما يدور في قصص المجموعة من حيث حضور المرأة المظلومة والخائفة: "تعرف أنها تعقد بينها وبين جسدها اتفاقيات عنيفة تعاهده فيها على القوة والتصدي ترجو روحها ألا تكشفها أمامه"/ص7. تؤسس هذه الوحدة السردية لعلاقتين في واقع سردية التأنيث، أوّلهما العلاقة مع الجسد المميَّزة سردا بالعنف، وهو ما يحيل الجسد على الفضاء الجمالي الذي تكسِّر به عنف الآخر الذكوري، والإتفاق مع الجسد قد يتعدى الجمالي إلى استلهام الموقف الوجودي في انتصاراته للواقع الأنثوي، وهو ما تعبِّر عنه المرأة بالمقولة الدّارجة في الوعي الأنثوي: "أريد أن أحقق ذاتي"، يكون تحقيق الذات في مواجهة الرّجل الذي ترى فيه آخرا مهيمنا. تتمثل العلاقة الثانية في التواصل السجالي مع الذكورة، حيث تستبين موقفها من خلال التمايز الوجودي عن الرجل. العنوان وفضاءات السّرد: يتأسّس العنوان كونه مُعلّقا على سقف النص كما يقول جاك دريدا كموضوع ينسج علاقة مع محاور السّرد في حدوده الممكنة، وعنوان "سيراميك" يتدفّق من موقعه الإشرافي كعلامة ترتبط عضويا بالمجموعة القصصية عن طريق النص المُدمَج في المجموعة والذي يحمل ذات العنوان، وهو ما تتَّبعه مجمل المجاميع القصصية، إلا أن العلاقة تتركّز أكثر من خلال الوحدة السردية في نص "سيراميك": "تستسلم الغزالة السّائبة لهوًى ما له مثيل.. وحين 'هو' يقدم لها فروض العشق فوق لوحة من 'السيراميك' الأبيض يهمس لشفتيها، وهو يمد راحته باللوحة الطرية: وهذه هديتي إليك"/ص78. تشتمل الوحدة السردية على حقل دلالي للجمال: "الغزالة، العشق واللوحة الطرية"، وهو ما يتوافق مع فضاء الأنثى السّكوني، وصفة الغزالة تتحقق سرديا في ذات الأنثى، بينما العشق واللوحة الطرية موضوعتان منفصلتان عنها لكنهما يتأسّسان في مسار الأيلولة اليها عن طريق الحبيب، وهو ما تحدِّد به سردية الأنثى المَعْبَر إلى الرّجل، وبالتالي يشتبك العنوان مع النصوص في علاقته الوظيفية بموضوعة الجمال الذي يتحدّد كمفهوم تجريدي في بوتقة الأنثى. معمار النص / هندسة المعنى: اشتغلت القصدية النصية في المجموعة القصصية "سيراميك" رغم إن قصدية الناص يصعب الإمساك بها على تثوير سكونية المرأة وانهضام مشروعيتها من خلال الهيمنة الذكورية، فالمرأة في النصوص مشروع مجهض، ونصوص المجموعة تقارب المرأة، ما عدا نص وحيد هو "اقتناص"، هذا النص الذي يتفجر كبؤرة تعبِّر عن أزمة أنثوية تهاجر من المعمار الوجودي للمرأة إلى المعمار النصي، حيث انسراق الحلم من المرأة تعكسه الهيمنة الذكورية، وهو ما ترتِّبه الدالة النصية في انطراحها المعماري، حيث يبدو نص "اقتناص" الوارد في منتصف المجموعة وكأنّه نواة توليدية لتموّجات المعنى في دلالاته المعبِّرة عن الحلم المسروق، أي أن المعنى في "اقتناص"، وهو النص الوحيد الذي لا يقارب موضوعة المرأة، يتوزّع على باقي النصوص التي تحيطه، وبهذا المعمار النصي في تشبيك الحكاية التي هي أنثى، "ولعل مثال ألف ليلة وليلة أصدق الأدلة على أن الحكاية اكتشاف أنثوي"3، تكون الناصة أمان السيد استطاعت أن تكشف عن معمار نصي يحايث المعمار الوجودي للمرأة في انهماكاته الأنثوية. إن نص الأنثى في مفهومه الأقرب التصاقا بعالم المرأة المهموم، والمندغم في عالم الذكورة كخيلولة جمالية لا تعدو كونها ترفيها تستدعيه الذكورة ساعة تحتاج اليه، قلت إن نص الأنثى في "سيراميك"، استطاع أن يجلّي السرد من ضبابيته الذكورية ليمنح "لوحة طرية" بتعبير المجموعة للمتلقي، يتحرّر فيها السرد من هيمنة البطل الرجل إلى سطوة الجمالية الأنثوية من خلال استرداد متعة السرد المسروقة، "ذلك أن الرواية قد سرقت من المرأة حتى صارت متعة السرد متعة ذكورية"4، كما ترى لورا ميلفي. فجائعية السرد / حلم الإنبثاق: تتربّع الناصة في مجموعة "سيراميك" ما بين إواليتي الفجيعة والحلم، فمعظم النصوص تكرّس مظهرا فجائعيا لواقع أنثوي، تشعره المرأة وتكتبه المبدعة، ولهذا كان السّجال بين المرأة وآخرها حادا في ما يتعلق بفسحة الوجود العارف في العالم، على أساس أن المرأة حُيِّدت لصالح الكتابة الذكورية التي فحَّلت الأنثى حين تصل مرتبة البوح العارف، ولعل السّردية الأنثوية تتأسّس كرد فعل تاريخي تستعيده المرأة باستشعارها لحظة الإنتصار على الذكورة بل وقهرها عن طريق النص، إنها اللحظة الألف ليلية المجيدة في حركة التحرّر الأنثوي العربي التي تبتعد قرونا عن فرح اللحظة الأوربية المنتصرة في محافل سيمون دو بوفوار أو في تحدّيات فرنسواز ساغان الفرنسيتين، حيث شهرزاد استطاعت أن تُنقذ حياة النّساء اللواتي كن سيقدّمن ككبش فداء لنزوة شهريار الذي أحسّ بمساس أنثوي لكبرياءه الذكوري، فعمدت شهرزاد إلى مقاومة "الرّجل (شهريار) بسلاح اللغة، فحوّلته إلى (مستمع) وهي (مبدعة) وأدخلته في لعبة المجاز وشبكته في نص مفتوح.. وتاه الرّجل في هذا السّحر الجديد.."5، وأغري بالنص إلى درجة أنه أصبح منقاذا تماما لرغبة الأنثى، حين كانت شهرزاد ترتّب فطامه النصي عند معادلة زمنية تتوازن عند إطلالة الفجر. إن سردية الأنثى ليست كلاما مفرغا من المعنى، أو أفكارا خارج السياق، إنها لحظة تاريخية تستعيدها الأنثى العارفة لترتيب احداثيات المعلم البياني لوجود أنثوي سردي، ولعل قصص "سيراميك" تدخل ضمن اللعبة الشهرزادية، أو ما أسمّيه اللعبة التنبيهية التي تلفت النظر إلى سردية التأنيث، وفق مخطط يتقصّد اقتحام الرّؤية الذكورية من خلال بداهة الفعل الأنثوي المنكسر في مساره، لكنّه الحامل لجمالية "الإنتاجية النصية"6، فالفجيعة التي تُظلِّل النّصوص، إلى غاية أن السّرد لا يني يقدّم حقلا دلاليا مأساويا لها: "البلهاء، المطلَّقة، انكسار.."، تخفت عند نصّي "رومانس" و"سيراميك"، المفعمين بإشراقات أنثوية باهرة، وأفق التلقي يستقبل الكلمتين بلفظهما الأصيل معرّبتين غير مترجمتين، مما يفتح الأفق الدلالي على التعالق النصي مع تجربة الأنثى في الفضاء الثقافي المختلف، وهو ما يفيد تجربة سردية التأنيث في الإنتقال عبر الزمكان لتفجير بؤر الوجودية الفاعلة في العالم. ينتهي مسار السّرد عند نص "علبة البيبسي"، وتحت العنوان إهداء صغير: "إلى نايا.. فراشة حمص"، و'نايا' حسب الحدث القصصي طفلة تتعرّض لمأساة فظيعة، إلا أن النص يدخل في كتلته ضمن قصدية ترتِّب لانبعاث أنثوي من عمق المأساة، فالنّصوص تتمحور معرفيا حول عناصر متتالية: الفجيعة. معظم النصوص. الحلم. نصي رومانس وسيراميك. الطفولة. نص علبة البيبسي. يظهر هذا التسلسل حسب قراءة في المجموعة تتّكئ على محاولة الحفر في موضوعة المأساة الأنثوية التي تهيمن على القصص، ويبدو من خلال العناصر التي تتمحور حولها النصوص والتي تنتهي بالطفولة، أن السّرد يحاول تركيز الدلالة حول سردية التأنيث المصرّة على النضال الوجودي من أجل ترسيم الموقع الأنثوي على خارطة الحركة الإنسانية في توسّماتها السردية الأشد حضورا، ولعل مفهوم الطفولة بانفتاحاته الوجودية على المشاكسة والنّزق، وانفتاحاته الزّمنية على البداية، إنما يؤسس لفعل الأمل الذي هو حسب سارتر: "طريقة ما في اكتناه الغاية التي يرى الإنسان أنه قادر على تحقيقها"6. هوامش: أمان السيد، سيراميك، قصص، دار نشر كلمة، مصر، ط1 / 2010. 1 د.م الرويلي، د. سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ص 330، ط/3، 2002. 2 جوليا كريستيفا، علم النص، تر فريد الزاهي، دار توبقال، ص77. 3 عبد الله الغذامي، تأنيث القصيدة، المركز الثقافي العربي، ص91، ط1/1999. 4 م ن، ص93. 5 د.محمد عبد الرحمن يونس، الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في ألف ليلة وليلة، الدار العربية للعلوم، ص181، ط1/2007. 6 جوليا كريستيفا،علم النص، م س، ص41. 7 د.خليل أحمد خليل، السارترية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص40، ط2/1982.