عندما نتأمل في حقيقة هذه الدنيا نعلم أنها لم تكن يوما دار إقامة، ولئن كان ظاهرها يوحي بجمالها إلا أن حقيقتها فانية ونعيمها زائل، لذلك يصلح ويكون معقولا أن نقول إن هَمّ المسلم ما ظل حيا لا يكون أبدا السعي وراء هذا الحُطام الفاني، بل تكون الدنيا مطيته للوصول إلى الآخرة، منها الزاد وليس إليها المنتهى، ومن أجل ذلك نسترجع قول «ابن عمر» رضي الله عنهما: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ فقال "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، ومن أجل ذلك أيضا كان يقول "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"، رواه «البخاري». تلك هي الدنيا التي غرّت الناس وألهتهم عن آخرتهم فاتخذوها وطنا ولا يزال الناس في غمرة الدنيا يركضون وخلف حطامها يلهثون حتى إذا جاء أمر الله انكشف لهم حقيقة زيفها وتبيّن لهم أنهم كانوا يركضون وراء وهم، قال تعالى "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليترك أصحابه دون أن يبيّن لهم ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم ويحذّرهم من الركون إلى الدنيا، ولذلك جاء حديث "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". غُربة لا تستقيم معها راحة بال أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ «عبد الله بن عمر» رضي الله عنهما ليسترعي انتباهه ويشعره بأهمية ما سيقول له، فانسابت تلك الكلمات إلى روحه مباشرة "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وانظر كيف شبّه النبي صلى الله عليه وسلم مُقام المؤمنين في الدنيا بحال الغريب، فإنك لا تجد في الغريب ركونا إلى الأرض التي حل فيها، ولكنه مستوحش من مقامه دائم القلق، لم يشغل نفسه بدنيا الناس، بل اكتفى منها بالشيء اليسير، وقد بيّن الحديث غربة المؤمن في هذه الدنيا التي تقتضي منه التمسّك بالدين ولزوم الاستقامة حتى وإن فسد الناس أو حادوا عن الطريق، فصاحب الاستقامة له هدف يصبو إليه وسالك الطريق لا يوهنه عن مواصلة المسير تخاذل الناس أو إيثارهم للدعة والراحة وهذه هي حقيقة الغربة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء"، رواه «مسلم»، وإذا كان المسلم سالكاً لطريق الاستقامة، حرص على قلّة مخالطة من كان قليل الورع ضعيف الديانة، فيسلم بذلك من مساوئ الأخلاق الناشئة عن مجالسة بعض الناس كالحسد والغيبة وسوء الظن بالغير، ولا يُفهم مما سبق أن مخالطة الناس مذمومة بالجملة أو أن الأصل هو اعتزال الناس ومجانبتهم، فإن هذا مخالف لأصول الشريعة التي دعت إلى مخالطة الناس وتوثيق العلاقات بينهم، قال تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"، وجاء في الحديث الصحيح "المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، رواه «الترمذي»، ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين كان يخالط الناس، وإنما الضابط في هذه المسألة أن يعتزل المرء مجالسة من يضرّه في دينه ويشغله عن آخرته بخلاف من كانت مجالسته ذكرا لله وتذكيرا بالآخرة. قبل انقطاع الطريق عبارة "كأنك غريب أو عابر سبيل" في الحديث النبوي ترقٍّ بحال المؤمن من حال الغريب إلى حال عابر السبيل، فعابر السبيل لا يأخذ من الزاد سوى ما يكفيه مؤونة الرحلة ويعينه على مواصلة السفر لا يقر له قرار ولا يشغله شيء عن مواصلة السفر، حتى يصل إلى أرضه ووطنه، قال بعض أهل العلم "وإنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عما قريب والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك"، وهكذا يكون المؤمن مقبلا على ربه بالطاعات، صارفا جهده ووقته وفكره في رضا الله سبحانه وتعالى، لا تشغله دنياه عن آخرته، قد وطّن نفسه على الرحيل، فاتخذ الدنيا مطيّة للآخرة وأعدّ العدّة للقاء ربه، وعن «أنس بن مالك» رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة"، رواه «الترمذي»، وذلك هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصله إلى «عبد الله بن عمر» رضي الله عنهما، فكان لهذا التوجيه النبوي أعظم الأثر في نفسه، ويظهر ذلك جليا في سيرته رضي الله عنه، فإنه ما كان ليطمئنّ إلى الدنيا أو يركن إليها، بل إنه كان حريصا على اغتنام الأوقات كما نلمس ذلك في وصيّته الخالدة عندما قال رضي الله عنه "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".