بقلم: ياسر الزعاترة كما أن الدول التي تحارب الربيع العربي وترفض الإصلاح السياسي تجدّف عكس تيار التاريخ، ولا بد أن تستجيب عاجلا أو آجلا لرغبات شعوبها في الحرية والمشاركة التي تكسر هيمنة نخبة بعينها على السلطة والثروة، فإن من يصرِّون على حكم الأقلية للأغلبية يفعلون ذلك أيضا، أي يجدّفون عكس تيار التاريخ، ولن يلبثوا أن يدركوا أن وضعا شاذا كهذا لا يمكن أن يستمر بحال من الأحوال. في جمهورية أفريقيا الوسطى حكم رئيس مسلم بعض الوقت، ثم اضطر إلى التنازل عن السلطة، مع العلم بأن نسبة المسلمين في تلك الجمهورية تقترب من حدود ربع السكان، ورغم ذلك تواصل الاحتقان وصولا إلى عمليات تطهير عرقي تكاد تأتي على جميع السكان المسلمين. نتذكر ذلك كله بين يدي العناد الإيراني الروسي في ما يتصل بالملف السوري، وإصرارهما على تجاوز تداعيات حرب مستمرة منذ ثلاث سنوات، أدت إلى تدمير البلد وتشريد تسعة ملايين من أبنائه، حتى تجاوز تعداد اللاجئين السوريين أعداد اللاجئين الأفغان الذين يتصدرون الرقم الدولي، فضلا عن مئات الآلاف من الضحايا (قتلى وجرحى ومعتقلون). والسؤال الذي يطرح نفسه لا يتعلق بالمدى الذي يمكن لإيران أن تحتمل فيه النزيف الاقتصادي في معركة عبثية تدفع كلفتها بالكامل، ولا يمكن أن تسفر عن النتيجة التي تريد، بل بنهاية هذه المعركة، وما إذا كانت ستعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بحيث تواصل الأقلية حكم الأغلبية في بلد كسوريا، طبعا في حال بقي موحّدا ولم يقسَّم، مع أن شيئا كهذا سيعني إطالة أمد النزيف والاستنزاف أيضا، لأن الثورة لن تقبل بالتقسيم، فضلا عن حاجة سيناريو من هذا النوع إلى عمليات تطهير طائفي وعرقي بالغ البشاعة. وللتذكير، فنحن نتحدث عن أقلية لا يتجاوز تعدادها عشر السكان، حصلت على السلطة ضمن حسابات استعمارية تفضل حكم الأقلية، لأنه يحتاج دائما إلى الحماية الأجنبية، وهي حسابات لا يمكن أن تبقى حاكمة إلى الأبد، ولا بد من تغييرها في زمن لم يعد بوسع أحد أن يحكم الناس بالحديد والنار. سيماري بعض الموتورين في أن الحكم في سوريا ليس حكم أقلية لأغلبية، وهو مراء فارغ لا طائل من ورائه، إذ يدرك الجميع حقيقة سيطرة الطائفة العلوية على مفاصل السلطة الأساسية، وخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، فضلا عن الرئيس، في بلد يُحكم بنظام رئاسي ليس للحكومة فيه أي نفوذ خارج سيطرة الرئيس الذي تحميه المؤسسة العسكرية والأمنية التي تسيطر عليها طائفة الرئيس (هي التي نصّبته رئيسا بعد موت أبيه رغم أنه لم يكن معدّا لذلك لولا موت شقيقه الوريث في حادث). أما وجود أقلية من بين الأغلبية تقف إلى جانب ذلك الحكم، فلا يعني الكثير، إذ ما من طاغية لا يتمتع بمريدين من كل الطوائف، كما أن الرعب الذي بثه النظام طوال عقود في أوصال الناس لا يمكن إلا أن يدفع كثيرين إلى الارتباط به رغبا أو رهبا. وحين يكون نائب الرئيس (فاروق الشرع) الذي ينتمي للأغلبية بمثابة رهينة بين يدي النظام، لا لشيء إلا لأنه رفض -بل فضح- ما يجري في لحظة صدق فهذا يعكس حقيقة ما يجري على الأرض. صحيح أن هناك أقليات أخرى تبدو مساندة للنظام -أغلبيتها بتعبير أدق- ويمكن أن تضيف إلى نسبة طائفته نسبة أخرى، لكن المجموع لن يتعدى ربع السكان، وهو أمر لا يجعل من الموقف عادلا أو مقبولا، ولا قيمة هنا للحديث عن مخاوفها من البديل، لأن موقفها كان محسوما منذ البداية، وقبل أن تطلق رصاصة واحدة، فضلا عن حقيقة أن النظام هو الذي جرّ الثورة إلى العسكرة اعتقادا منه بأن ذلك سيسهّل عملية القضاء عليها. ولا ننسى أن الثورة لم تبدأ طائفية أبدا، وكان شعارها الأكثر شيوعا هو (واحد، واحد، واحد.. الشعب السوري واحد)، كما أن في ممثليها السياسيين الكبار من هم من أبناء الأقليات، كما هو حال جورج صبرا وغيره من المسيحيين، وعبد الباسط سيدا من الأكراد، وغيرهما من أقليات أخرى، بما في ذلك قلة من العلويين. هل يمكن بعد كل هذه المآسي التي شهدها البلد طوال ثلاث سنوات أن يستقر تحت حكم الأقلية ذاتها، وهل يمكن لكل هؤلاء الذين ذاقوا الويلات بسببه أن يتحولوا إلى حملان تقبل حكم الذئب بعد ذلك كله؟ إن الغرور والغطرسة اللتين تتلبسان إيران هما وحدهما ما يمكن أن يدفع نحو الإجابة بنعم على سؤال كهذا، ومن يندبون ليل نهار من تعاطي البعض مع ما يجري في البحرين، هم أنفسهم من يدافعون عن حكم الأقلية هنا، ولو عرض بشار على الأغلبية ما عُرض على شيعة البحرين من قبل النظام (في البداية بطبيعة الحال)، لربما وافقوا قبل أن تسيل الدماء غزيرة خلال السنوات الماضية. وللتذكير، فنحن في الحالة الأخيرة نتحدث عن نسبة متقاربة بين الطائفتين، وإن كانت أكبر في حالة الشيعة، وفي دولة ملكية وراثية، وليس جمهورية كسوريا، ونحن في نهاية المطاف مع دولة المواطنة في كل مكان، وهي التي كان يبشر بها ربيع العرب، لولا أن عطّلته الرعونة الإيرانية في سوريا. دعونا نفترض جدلا أن المواجهة العسكرية قد انتهت لصالح النظام، ما الذي سيمنع الجماهير بعد عام أو عامين أو أكثر من الشروع في انتفاضة سلمية جديدة تستلهم الدروس السابقة، ومن ثم تتجمع بالملايين في الميادين الكبرى وصولا إلى إسقاط نظام لا تريده، كما حصل في أوكرانيا مثلا؟ ثم إلى متى يبقى العامل الإسرائيلي قائما، وهو الذي سمح للنظام بالصمود عسكريا بسبب القيود على تسليح الثوار خشية وصول الأسلحة النوعية إلى ما يسمونه جماعات لا يمكن السيطرة عليها، ويمكن أن تؤثر على وضع الاحتلال؟ إيران -بما تفعل في سوريا- لم تترك مرارات لا يمكن ردمها بين الأقلية والأغلبية، ولا تدير معركة لا يمكن الانتصار فيها مهما طالت وحسب، بل هي إضافة إلى ذلك تدخل بالفعل في مزاج عداء سافر مع أغلبية الأمة. خلاصة القول هي أن إيران بدعمها بشار الأسد قد اتخذت أسوأ قراراتها، وستدرك ذلك عاجلا أو آجلا، ولا يمكن أن يعود الوضع إلى سابق عهده، مهما طالت الحرب التي يبدو أنها تستعيد تجربة أفغانستان، وحيث تلعب إيران هنا دور الاتحاد السوفياتي هناك، وحتى لو تفوق أو انتهى الأمر بتسوية غير مرضية، فإن ذلك لن يكون سوى مرحلة عابرة بين انتفاضتين.