عادت ليبيا إلى الصدارة الإعلامية بعد طول غياب، الحرب التي استهلّها اللواء المتقاعد خليفة حفتر على عدد من الفصائل المتمركّزة في مدينة بنغازي كانت السبب الرئيس وراء هذه العودة. بالرغم من أن الفصائل المستهدفة متعدّدة المشارب فإن التركيز، أقلّه إعلاميا، هو على فصيل (أنصار الشريعة). فمن هو هذا الفصيل؟ وما هي نظرته للأحداث المتسارعة في ليبيا؟ للحركة الجهادية باع وتاريخ طويل في ليبيا، فالليبيون معروفون بانخراطهم وتحمّسهم لعدّة قضايا إسلامية وفي مختلف الحقبات التاريخية، ويمكننا أن نعتبر أن بزوغ أوّل حراك إسلامي وجهادي في ليبيا يعود إلى نهاية ثمانينيات القرن الماضي وامتدّت هذه الحقبة حتى عام 2008، وخلالها نشأ تنظيمان مهمان هما (كتائب الشهداء) و(الجماعة الإسلامية المقاتلة). فصيل (كتائب الشهداء) كان تنظيما عسكريا بحتا بقيادة عدد من قيادات الرعيل الأوّل أمثال الشيخ أبو شرتيلة أو الشيخ البرغثي. علما بأن أغلب قيادات وجند التنظيم قضوا خلال القتال والمعارك وأبرزها ما عرف (بمعركة العمارة) في منطقة الماجوري فيبنغازي. أمّا بالنسبة (للجماعة الإسلامية المقاتلة) فقد اختار هذا الفصيل أن يركز نشاطه وحركته خارج الأراضي الليبية، ومنه انبثق عدد من أشهر القيادات الجهادية الليبية، والتي أصبحت معروفة على نطاق الجهاد العالمي، خصوصا في أفغانستان. وهنا نذكر على سبيل المثال ولا الحصر عطية اللّه الليبي وأبو يحيى الليبي. علما بأنه من هذه الجماعة أيضا خرج عبدالحكيم بلحاج الذي دخل اللعبة الديمقراطية بعد أن ساهم بإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، ونذكر أيضا نعمان بن عثمان الذي اختار طريقا مختلفا تماما لا بل مضاد، ذلك عبر إنشاء مركز (كيليام للدراسات) في بريطانيا وهدفه (مكافحة التطرّف)، وهو اليوم من المؤيّدين لحركة اللواء المتقاعد خليفة حفتر. في النّصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي اشتد قمع نظام العقيد معمر القذافي للإسلاميين على مختلف أطيافهم وامتلأت سجون ليبيا بشبابهم وشيبهم. ومن لم يُقتل أو يتمّ إلقاء القبض عليه أو يغير في مسلكه وعقيدته وجد ضالته في بعض الدول الأخرى التي كانت تشهد صراعات حالة تناحر كبيرة كما هو الحال في العراق، حيث ظهرت ما تسمّى ب (الهجرة الجهادية) التي نقلت هذه الفئة إلى مرحلة أخرى من حيث توسيع دائرة النشاط(المسلّح)، ولقد اختار عدد قليل منهم التوجّه إلى مالي المجاورة. 2011 بداية النهاية مع انتقال الحراك الثوري العربي من تونس إلى مصر ومن ثمّ إلى ليبيا مطلع عام 2011، دخل العامل الجهادي على خطّ المواجهة مع النّظام القائم منذ اللحظة الأولى، وهذا ما تمّ تغييبه عن الساحة الإعلامية لعدّة أسباب بديهية ولا مجال للغوص فيها الآن. لكن الكلّ يعلم بأن العمل العسكري في بنغازي استهلّ بعملية تفجير فدائية على باب ثكنة للجيش الليبي في المدينة. وكان واضحا عمل الفصائل الجهادية، وتلك المقرّبة منها، خلال ما عرف بمعركة بنغازي الثانية تزامنا مع بداية الضربات الجوية لحلف شمال الأطلسي، والتي أوقفت زحف قوات القذافي على تخوم المدينة. لكن المراقبين يختلفون حول تاريخ إنشاء (تنظيم أنصار الشريعة) في ليبيا، حيث يقال إنه أنشئ أواخر عام 2011 أو في أبعد تقدير بداية عام 2012، لكن بعض المصادر تعيد تاريخ إنشاء التنظيم إلى قيام ما عرف (بالملتقى الأوّل لأنصار الشريعة) في بنغازي، وهو كان بمثابة أوّل ظهور إعلامي للتنظيم، في صيف 2012، وذلك بعد انشقاق أو خروج عدد من الكوادر من (سرايا راف الله شحاتي) التي ما زالت تعمل في بنغازي حتى يومنا هذا، والتي كانت من أولى أهداف ضربات الطيران التي استهدفت على حد سواء مراكزها ومراكز (كتيبة شهداء 17 فيفري) على السواء منذ أيّام. ومنذ نشأة أنصار الشريعة كان ولا يزال المسؤول العام عنها الشيخ محمد الزهاوي، وهو من السجناء السابقين في سجن أبي سليم الشهير في العاصمة الليبية طرابلس، وكل ما قيل ويقال عن دور قيادي لسفيان بن قمو، وهو السائق السابق لبن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، يُرجّح أن يكون مبالغا به، لأن هذا المعتقل السابق في غوانتانامو لا يتعدّى كونه آمرا على فرع الفصيل في مدينة درنة على أهمّيتها. ومن الملاحظ أن أنصار الشريعة بعد أن مرّت بفترة انحسار نسبي منذ أشهر خلت، عادت إلى عدد من المدن والبلدات أبرزها بنغازي، درنة، أجدابيا وسرت. ذلك بينما ينفي التنظيم نفيا قاطعا أيّ وجود له في مدينة سبها أو في الجنوب الليبي عموما، إلاّ أنه ومنذ نوفمبر من العام الفائت بدأت تحتد المواجهات مع عدد من الفصائل ومنها من كان التحق حديثا بالجيش الليبي في مدينة بنغازي. ما أدى إلى رفع (أنصار الشريعة) لحواجزها ولمغادرة المدينة أقله ظاهريا، لكن من يتيقن للعلاقة الوطيدة، بينهم وبين (سرايا راف اللّه الشحاتي) و(كتيبة شهداء 17 فيفري) يعلم أن الفصيل استمر بالتواجد بفعالية في بنغازي، لا بل طوّر عمله لاحتواء السخط الشعبي الذي تعرض له في تلك الفترة. ليبيا ممرّ ومقرّ للجهاديين من الواضح لكلّ متابع للحراك الجهادي أن ليبيا أصبحت ممرّا وملاذا للعديد من الجهاديين من المغرب العربي، ذلك قبيل توجّههم للقتال في سوريا أو حتى العراق منذ انفتاح الحدود ما بين البلدين بسبب تمدد (الدولة الإسلامية في العراق والشام) في تلك المناطق. ومن المعلوم أيضا أن الليبيين كانوا من أوّل من التحقوا بالقتال ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد وإن كان القتال في وقته لم يأخذ منحى جهاديا بحتا بعد، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر لواء الأمّة الذي أنشأ أوّل مخيم لتدريب المقاتلين الأجانب في سوريا في منطقة إدلب، والذي درّب الكثير من السوريين، والذي جاء أيضا بأول كوادر طبية لمساندة قوات المعارضة المسلّحة التي كانت تقاتل بشكل عفوي وبدائي وقتها. من المعلوم أيضا أن أغلب الجهاديين الليبيين متواجدون اليوم في صفوف (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، فيما يعرف بكتيبة (البتار) العاملة في منطقة الرقة شمال شرق سوريا، حتى وإن كانت هذه الكتيبة قد حلّت تنظيميا بعد مبايعتها جند وكوادر الدولة الإسلامية. لكن حتى تاريخ كتابة هذه السطور أنكر القيّمون على أنصار الشريعة الذين لا يخفون تطلّعهم إلى إقامة دولة إسلامية في ليبيا وإلى عدم نيتهم تسليم سلاحهم قبل إقامة هذه الدولة، أيّ صلة تنظيمية لهم بتنظيمات أخرى خارج ليبيا ومنها القاعدة. وتتّهم الجماعة بضلوعها بالهجوم على السفارة الأمريكية وبعدد من عمليات الاغتيال والخطف، إلاّ أنها لم تتبنّ أيّ من هذه العمليات، أقلّه حتى الساعة. بيان المسؤول العام لأنصار الشريعة من بنغازي فقد تنظيم أنصار الشريعة خلال المواجهات الأخيرة في بنغازي عددا من عناصره، علما بأنه لم يكن إلاّ جزءا من القوات المدافعة، وهذا ما أكّدته لنا عدّة مصادر من بنغازي نفسها. وقد خرج المسؤول العام للتنظيم محمد الزهاوي ببيان بالصوت والصورة وأمام الإعلام يتهم فيه الضابط المتقاعد خليفة حفتر (بالعمالة للولايات المتّحدة الأمريكية كما للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر) في ما وصفه (بمعركة الخيانة والحرب على الإسلام وأهله وبيع لثروات بلادنا)، مؤكّدا أنه (إذا كان الأمر قد تيسّر لهم في كلّ من مصر وتونس فإنهم قد صدموا بعائق المجاهدين الذين حملوا السلاح في وجه القذافي فادّعوا أن حربهم على الإرهاب والتطرّف، والواقع أن هدفهم السيطرة على السلطة وتكرار العملية المصرية في ليبيا لتعود الدكتاتورية بقيادة سيسي جديد يدعى خليفة حفتر). وفي نفس البيان يقول الزهاوي إنه مع المطالبة بالأمن والأمان، وأن أنصار الشريعة لا تدّعي أنها وصية أو رقيبة على أحد ويذكّر بشعار التنظيم (أبناؤكم في خدمتكم)، مؤكّدا أنه لا دخل للتنظيم (في الصراع السياسي الدائر في ليبيا، والذي يقوده الغرب لتقسيم البلاد إلى تيارات وأحزاب سياسة تتقاتل). ودعا الزهاوي في نفس السياق المشايخ والقبائل (إلى إقامة الشريعة صراحة والعمل من ترسيخها في الحكم)، داعيا إيّاهم إلى (التبرّؤ) من العملية التي يقودها اللواء حفتر. ثمّ يختم المسؤول العام لأنصار الشريعة مذكّرا بما آلت إليه الأمور في سوريا، قائلا إن (الإصرار على هذه الحرب (سيفتح الجحيم عليه -أي حفتر- وعلى المنطقة برمّتها فإن أهل التوحيد في المنطقة بل وفي العالم بأسره لن يخذلوا أهل التوحيد في ليبيا)، مهدّدا بأن ترى الولايات المتّحدة (أشد ممّا رأته) في العراقوأفغانستان والصومال.