بقلم: مصطفى قاعود يمتاز الخطاب السياسي الإسرائيلي بإنتاج كم هائل من المصطلحات السياسية حمالة الأوجه، وهذه المصطلحات جزء لا يتجزأ من منظومة التضليل التي نما وترعرع عليها المشروع الصهيوني، وهي ذات بعدين: الأول يهدف للوصول إلى بعد دلالي سياسي يتناسب والمصلحة ويتناسب مع المتطلبات المرحلية، والثاني تعبوي داخلي يضمن حشد أوسع تأييد داخلي دون استفزاز المجتمع الدولي. وفي هذه الدراسة سنتوقف مع العديد من تلك المصطلحات، عبر نماذج موجهة للداخل الإسرائيلي وأخرى موجهة للرأي العام الدولي، ومنها ما هو قديم وتزامن مع ولادة المشروع الصهيوني، ومنها ما هو جديد وينتمي لأدبيات التسوية، أو الخطوات أحادية الجانب سواء في تطور المشروع الاستيطاني، أو فيما يختص بخطوات تتعلق بإدارة عملية الاحتلال ذاتها، مثل عملية فك الارتباط عن غزة، هذا المصطلح الذي سنتوقف عنده مليا. وفي جديد هذا الملف وهو الدافع وراء إجراء هذا البحث، نشرت يديعوت أحرنوت تصريحا لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، دعا فيه الرئيس محمود عباس للاعتراف بما أسماه (الرابطة التاريخية لليهود بأرض (إسرائيل))، ففي سياق كلمة ألقاها في الكنيست بحضور الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قال نتنياهو: (من هنا أدعو عباس لكسر الجمود. تعال إلى الكنيست الإسرائيلي وسآتي أنا إلى رام الله. تعال وقف على هذه المنصة واعترف بالحقيقة التاريخية أن لدى اليهود رابطة عمرها نحو أربعة آلاف عام مع أرض (إسرائيل)). وهذا المصطلح أي (الرابطة التاريخية) هو نوع من التخفيف من وطأة شعارات مثل (الاعتراف بيهودية الدولة _ الاعتراف بحق (إسرائيل) في الوجود)، وهو يعطي نفس المعنى السياسي، ولكن بوقع نفسي أخف وطأة على الأصدقاء الذين ينفرون من المجاهرة بالعنصرية الصهيونية وهي تحرجهم إلى حد ما، فشعار يهودية الدولة هو شعار عنصري بامتياز، ولكن الحديث عن (الرابطة التاريخية) هو أخطر منه لما فيه من نفي وإلغاء للرابطة التاريخية الفلسطينية بأرض فلسطين، وإحلال الرابطة (بأرض (إسرائيل))، وفيه إيحاء بأن الوجود الفلسطيني وجود (عابر في أرض (إسرائيل)) بينما الحقيقة هي أن الوجود اليهودي هو العابر في أرض كنعان، وهو كمثل أي غزو تعرضت له فلسطين. وضمن المصطلحات المعبرة عن الاستيطان والاحتلال وتعريف الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، لكل مصطلح مرادف دلالي في العبرية يعطي المعنى المقصود والذي يلغي صفة مستوطن ويحل مكانها صفة مقيم في (أرض (إسرائيل) الكاملة) وللتوضيح هذا مقطع من حديث إحدى المستوطنات المتطرفات مع وسيلة إعلامية إسرائيلية حول الأمر حيث تقول اميلي عمروسي (أنا واثقة أنّ للكلماتِ تأثيراً ليسَ علَى الوعْي فحسْب، وإنما علَى الواقع أيضاً. لأنه حين يُقال (هجداه همعرفييت (الضفةالغربية) لا أدْري إلى ماذا ينسبونَنِي؟ إلى ضفة نهرِالأردنْ، أيْ إلى الأردنْ. كذلك حين يُقال أو تُستخدم كلمة (شطحيم) (مناطق) فهذه كلمة أخرَى مشحونة عاطفيا وقاسية جدا. إن معارضتَنا أو رفضنا بالأحرى لكلمة (شطحيم) (مناطق) هي بالأساس لأن الإضافة لهذه الكلمة على الغالب هي (هاشطحيم هاميتسوحرريم) أيِ المناطق المحررة. والحقيقة أن هناك مؤسسات إسرائيلية تعكف على دراسة تلك المصطلحات، بل ومراقبة تصريحات المسؤولين، فعشية فك الارتباط عن غزة استخدم أرئييل شارون كلمة احتلال، وعلى الفور تلقى اتصالا هاتفيا من المستشار القانوني للحكومة جاء فيه( سيدي رئيس الوزراء لا تستخدم مصطلح احتلال بل مصطلح أراض متنازع عليها)، ولهذه القصة أيضا جذر في التاريخ الصهيوني حيث يجيد قادة الصهيونية عملية التدرج في استخدام وتطوير المصطلح مراعاة للجو العام الدولي والوسط اليهودي، ففي برنامج بازل الذي وضعه ثيودور هرتزل، تعمد الأخير تجنب استخدام كلمة دولة يهودية في البداية، واستخدم بدلا من ذلك مصطلح ( heimstatte) بالألمانية أي خلق مسكن لليهود، ويعادلها بالإنكليزية (hoesteud) إيجاد مأوى للشعب اليهودي، وتعني بالإنكليزية (مكان أو منزل المرء)، وكانت هذه الصياغة ملتبسة ومموهة لكلمة دولة، وذلك خوفا من رفض بعض الدول الأوروبية للفكرة حيث كانت تراهن على اندماج اليهود في مجتمعاتهم، ولكي لا تستفز اليهود المتدينين المعترضين على فكرة الدولة من منطلق ديني، ودائما كانت تتم مراعاة الجذر التوراتي للعديد من الكلمات والمسميات، فعلى سبيل المثال أنشئت حركة استيطانية صهيونية تحت أسم bilu وهي من الأحرف الأولى لجملة (بيت يعقوب ليحي فنيلخاه) أي (إلى بيت يعقوب هيا نذهب) وهذه الجملة وردت في سفر أشعياء. وحتى تسمية جيش الدفاع الإسرائيلي ليست بمعزل عن تلك المعاني الدالة، فكلمة دفاع دائما تبقي إسرائيل في موقع الضحية، ولكن جذر الكلمة حملته نواة هذا الجيش من أخطر العصابات الإرهابية الصهيونية الهاغاناه، والتي تأسست في 25/6/1921 تحت هذا الاسم الذي يعني بالعبرية (الدفاع)، بينما قبل ذلك كان هناك ما يعرف بالجيش الأول ليهودا تحت اسم معلن هو حملة البنادق الملكية ونسبت لبريطانيا وبرعايتها، أسسها فلاديمير جابوتنسكي عام 1917 بقوام الكتائب 38- 39 _ 40 ، وفي عام 1941 تم تأسيس البلماخ أي القوة الضاربة للهاغانا من قوام الكتيبة الملكية 40، في إشارة للاستغناء عن الرعاية البريطانية، بينما كان التوجه التدريجي نحو إظهار الوجه الإرهابي المتطرف، فقام جابوتنسكي بتأسيس منظمة الأرغون أو المعروفة باسم إتسل أي المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل، وبذلك خرج جابوتنسكي على منطق التعمية الدفاعية التي تنتهجها الهاغانا، وأكثر من ذلك عارضت الإتسل فكرة إنشاء (جيش الدفاع) برعاية بن غورويون مما اضطر بن غوريون إلى قصف وإغراق السفينة (إلتلينا )، التي تحمل أسلحة ومهاجرين يهودا لصالح منظمة الإتسل، وكانت تلك لحظة فارقة ضحى فيها بن غوريون بهؤلاء اليهود لصالح فكرة الدولة المركزية التي تحتاج إلى جيش موحد. وفي إطار المصطلحات الدالة والهادفة إلى استقطاب الوعي اليهودي من جهة، والانتقال بالرأي العام العالمي الغربي تحديدا من موقع لآخر، كانت أيضا لعبة اختيار أسماء الحروب ضمن تلك اللعبة، وآخرها كان اسم عامود السحاب على آخر عدوان على غزة، وهو اسم توراتي كناية عن العمود الذي سار أمام بني إسرائيل أثناء خروجهم من مصر، طبعا سبقه تسميات عديدة مثل عناقيد الغضب وغيرها، ولكن الاسم الأخير كان الأكثر دلالة عن الطور الذي وصل إليه المشروع الصهيوني، وهو تحقيق يهودية الدولة، وقد عاد نتنياهو اليوم للعزف على ذات الوتر بحديثه عن الرابطة التاريخية ( بأرض (إسرائيل))، وهذه اللعبة استمرت أيضا في تفسير (إسرائيل) لقرارات الشرعية الدولية، وقد شاركت الولاياتالمتحدة في صياغة العديد من تلك القرارات حمالة الأوجه، وقد يطول الحديث عن المصطلحات ولكن أوردنا في هذا البحث بعض النماذج علها تفي بالغرض.