أن يوفق الطالب بين الدراسة والعمل أمر مقبول بل ومستحسن، خاصّة إذا كان يملك وقت فراغ يمكنه من ذلك، وكانت أسرته بالمقابل تعاني فقرا وحاجة، لكن لم يعد الأمر يقتصر على الطلاب في الجامعات، او حتى تلاميذ الثانويات، بل حتى الصغار الذين يدرسون في الابتدائيات والمتوسطات صاروا يملكون وعيا بضرورة العمل، وعدم التخلي عن الدراسة في المقابل. الدراسة مهمة وتحدد بشكل كبير مصير ومستقبل الإنسان، وبالخصوص إذا ما كانت طموحاته وأحلامه تتعدى مجرد الحصول على المال او السلطة، او غيرها من الأهداف الصغيرة التي تحولت إلى مقدسات عند البعض، وهي الحقيقة او الفكرة التي قليلا ما يملكها أطفال لم يروا من الدنيا إلا وجهها المشرق، او على العكس، لم يروا إلاّ المأساة على صغر سنهم، وتقلصت أحلامهم، بطبيعة الحال، عند الحصول على المال، ليحاربوا به الفقر المدقع الذي تعانيه أسرُهم، فتراهم يتركون الدراسة في سن مبكرة، ولم ينالوا منها إلاّ قسطا ضئيلا، ويتجهون إلى العمل لمساعدة الأسرة الفقيرة، إلاّ أن بعض هؤلاء الأطفال وعوا أهمية الدراسة، كما لم يفرطوا في واجبات أسرية ألقيت على كاهلهم قبل أن يبلغوا حتى سن الهموم والمأساة. تحدثنا إلى بعض الأطفال الذين كانوا يجمعون بعض المواد من نحاس وبلاستيك وغيرها مما يعاد بيعه للمصانع والورشات، وكنا ننتظر أن يشتكوا لنا التوقف عن الدراسة بسبب الفقر وسعيا وراء لقمة العيش، خاصّة وان هيئتهم والعمل الذي كانوا يمارسونه يدلان على ذلك الفقر المدقع، لكن مع ذلك فاجئنا سمير، 10 سنوات، عندما اخبرنا انه يعمل في الفترة المسائية فقط، وهذا منذ سنة تقريبا، أمّا دراسته فلا ينوي تركها بأيّ حال من الأحوال، يقول: "كبرت منذ سنة، حين سألت أمي لمَ لا تشترين السكر؟ فقالت أنها لا تملك النقود، خاصّة وان هذه المادة كان قد ارتفع سعرها، ولأني اعرف أنّ أمي مدمنة على شرب القهوة، خرجت إلى الشارع هائما على وجهي فالتقيت أصدقاء لي كانوا يحملون أكياسا كبيرة، عرضوا علي مرافقتهم ففعلت، وبدا لي الأمر في البداية غريبا، حين اتجهوا إلى النفايات وراحوا يجمعون بعض المواد التي قالوا لي أنهم يبيعونها فيما بعض إلى مصانع لإعادة هيكلتها، فحملت كيسا وجمعت معهم وفعلت كما يفعلون، وفي النهاية حصلت على مائتي دينار، وكان أوّل ما فعلته أن اشتريت السكر لأمي، وعندما سألتني عن مصدر الأموال أخبرتها بالحقيقة، وأقنعتها بعد أيام أن تسمح لي بمواصلة العمل، لكنها اشترطت عليّ أن لا أتوقف عن الدراسة بأيّ حال من الأحوال، فوافقت". أمّا مراد، فهو الآخر يعمل في ورشة لصناعة الورق المقوى أو"الكرتون"، رغم انه لا يزال يدرس في الطور الابتدائي، ولكن المشاكل العائلية التي عاشها منعته من أن يفكر مثل أترابه من الأطفال الذين لا همّ لهم إلاّ اللعب والمرح، يقول لنا: "في الحقيقة كنت سأتوقف عن الدراسة بعد وفاة أبي، وتحمل أمي كامل مسؤولة الأسرة، لكنني بعد ذلك فكرت في أن ذلك لن يكون إلا حلا مؤقتا، وأنني بذلك لن اقضي على طفولتي فحسب، بل حتى على مستقبلي، وظنت أنّ الأحوال ستتحسن بعدما تزوجت أمي مرّة ثانية، لكنها، للأسف، لم تزدد إلاّ سوءاً على سوء، واضطررت إلى العمل ليس لتوفير مصاريف الدراسة ومساعدة الأم فحسب، ولكن أيضا للهروب من البيت، وإمضاء كامل الوقت خارجا، فصرت لا أعود إلى البيت، إلاّ للنوم".