الدين والإكراه في الرؤية الإسلامية ضدان؛ لا يمكن اجتماعهما. فمتى ثبت الإكراه بطل الدين. الإكراه لا ينتج دينا، بل ينتج نفاقا وكذبا وخداعا، وهي كلها صفات باطلة وممقوتة في الشرع، ولا يترتب عليها إلا الخزي في الدنيا والآخرة. وكما أن الإكراه لا ينشئ دينا ولا إيمانا، فإنه كذلك لا ينشئ كفرا ولا ردة. فالمكرَه على الكفر ليس بكافر، والمكره على الردة ليس بمرتد. وهكذا فالمكره على الإيمان ليس بمؤمن، والمكره على الإسلام ليس بمسلم. ولن يكون أحد مؤمنا مسلما إلا بالرضا الحقيقي الذي أوضح النبي صلى الله عليه وسلم كنهه بقوله في الحديث المطول: "رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا". وإذا كان الإكراه باطلا حتى في التصرفات والمعاملات والحقوق المادية والدنيوية، حيث إنه لا ينشئ زواجا ولا طلاقا، ولا بيعا، ولا بيعة، فكيف يمكنه أن ينشئ دينا وعقيدة وإيمانا وإسلاما؟! هل نسخ الله آية الإكراه؟ من الآيات التي ذهب بعض المفسرين إلى القول بنسخها، الآية الكريمة: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256)، مع أن الآية تقرر قضية كلية قاطعة، وحقيقة جلية ساطعة، وهي أن الدين لا يكون ولا يمكن أن يكون بالإكراه. فالدين إيمان واعتقاد يتقبله عقل الإنسان وينشرح له قلبه، وهو التزام وعمل إرادي، والإكراه ينقض كل هذا ويتناقض معه. فقضية "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" قضية كلية محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية قبل الدخول في الإسلام، وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداء، كما لا يكون بالإكراه إبقاء. ولو كان للإكراه أن يتدخل في الدين ويُدخل الناس فيه، أو يبقيهم فيه، لكان هو الإكراه الصادر عن الله عز وجل، فهو سبحانه وحده القادر على الإكراه الحقيقي والمُجْدي، الذي يجعل الكافر مؤمنا والمشرك موحدا والكتابي مسلما، ويجعل جميع الناس مؤمنين مسلمين. ولكنه سبحانه وتعالى أبى ذلك - بحكمته- ولم يفعله، قال تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، وقال تعالى: "قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" (الأنعام: 149)، وقال تعالى: "وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" (الأنعام: 107. فحكمة الله التي لم تأخذ بالإكراه في الدين، حتى في صورة كونه ممكنا ومجديا وهاديا، لا يمكن أن تقره حيث لا ينتج سوى الكذب والنفاق وكراهية الإسلام وأهله. وإذا كانت الآية "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" غير منسوخة، وغير قابلة للنسخ، فهي أيضا غير مخصصة وغير قابلة للتخصيص. وأقل ما يقال في هذا المقام، هو أن الآية جاءت بصيغة صريحة من صيغ العموم، فلا يمكن تخصيصها إلا بدليل مكافئ ثبوتا ودلالة. قال العلامة الطاهر ابن عاشور: "وجيء بنفي الجنس [لا إكراه]، لقصد العموم نصا، وهي (أي الآية) دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه...". إذا تقرر أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وعامة غير مخصوصة. وإذا كان هذا واضحا وصريحا بلفظ الآية ومنطوقها، فلننظر الآن في بعض الاعتراضات والاستشكالات الواردة في الموضوع، وأهمها أمران: الأول: ما ثبت في عدد من النصوص القرآنية والحديثية وكذلك في السيرة النبوية الفعلية، من قتال للمشركين حتى أسلموا. وهكذا تم "إكراه" معظم مشركي العرب على الدخول في الإسلام، كما يقال. الثاني: حد الردة، فإنه "إكراه" على البقاء في الإسلام، وبذلك اعتبر هذا الوجه من وجوه الإكراه خارجا عن مقتضى الآية وعمومها. الردة وتكييف عقوبتها وليس الأمر الأول بالذي أود أن أتحدث فيه، علاوة على أنه قُتل بحثا من قبل. وأما بخصوص الأمر الثاني، وهو قتل المرتد، أرى من المفيد ومن الضروري التذكير ببعض القواعد المنهجية، التي تنطبق عليه وعلى سابقه وعلى نظائرهما. * لقد تقرر سابقا أن الكليات لا نسخ فيها. * وتقرر أن الكليات المُحْكمات هن أُم الكتاب وأُس الشريعة، وأنها حاكمة على الجزئيات ومقدَّمة عليها. * وقرر الإمام الشاطبي كذلك أن: التشابه لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية. وبيَّن "أن المراد بالأصول القواعدُ الكلية، أكانت في أصول الدين أو في أصول الفقه أو غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية". ثم قال: "فإذا اعتُبر هذا المعنى، لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام.". وطِبقا لكل ما تقدم، قرر الشاطبي قاعدة منهجية أخرى، وهي: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال". وذلك لأن القاعدة الكلية تستند إلى أدلة قطعية غير محتملة، بينما القضايا الجزئية المتعارضة معها، ترِد عليها الاحتمالات والتأويلات والشكوك. * وقدوضَّح المسألة بمثال وقع في زمانه وفي بلده غرناطة، وهو قتل موسى عليه السلام للقبطي، حيث يمكن أن يُفهم منه عدم عصمة الأنبياء المقررة في العقيدة الإسلامية. فكان رأي الشاطبي أن عصمة الأنبياء قضية كلية مستفادة من عدد من الأدلة القاطعة، وهي فوق الشك والاحتمال. فإذا سلمنا بهذه القاعدة، أو بهذا الأصل، أمكننا حينئذ أن نفهم وقوع القتل من موسى للقبطي على أي وجه لا ينقض العصمة ولا يتنافى معها. "فمُحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنباً، فلم يبق إلا أن يقال: إنه ليس بذنب، ولك في التأويل السِّعة، بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عن ظاهر الآيات". ونحن نعلم أن قاعدة "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" قطعية الثبوت قطعية الدلالة، فضلا عن كليتها وعموم صيغتها، كما نعلم بالعقل والتجربة أن الإكراه على الدين لا يجدي نفعا ولا ينتج إلا ضررًا. فإذا علمنا هذا وتمسكنا به ولم نحِد عنه، كان بإمكاننا أن نتعامل بشكل سليم مع ما روي من أخبار وآثار تفيد قتل المرتد عن الإسلام، إذا لم يتب ويرجع عن ردته. فالقول بأن القتل يكون للردة وحدها ولا شيء معها أو سواها، يتنافى تنافيا واضحا مع قاعدة "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" فتعين رده وعدم التسليم به. بعد ذلك، فإن هذه الأخبار والآثار الدالة على قتل المرتد، يمكن أن تفهم على أنها: أ - إما متعلقة بعقوبة تعزيرية، تراعى في اعتمادها الملابسات والمخاطر التي كانت تشكلها حركة الردة على الكيان الإسلامي الناشئ. خاصة ونحن نعرف من خلال القرآن الكريم، ومن سياق الأحداث والوقائع يومئذ، أن كثيرا من حالات الدخول في الإسلام، ثم الخروج منه، كانت عملا تآمريا مبيَّتا ينطوي على الخيانة والغدر. ب - وإما متعلقة بما يقترن عادة مع الردة، من جرائم، أو التحاق بصف العدو، أو نحوها من الأفعال الموجبة للعقوبة. وهذا ما تشير إليه بعض روايات الحديث النبوي الصحيح (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...)، وهو أصح شيء في الباب. ففي رواية الصحيحين والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة). فالحديث لم يقتصر على المروق من الدين (وهي الردة)، بل أضاف إليه ترك الجماعة، أو مفارقة الجماعة، أو الخروج من الجماعة، كما في روايات أخرى. وهي إضافة لا يمكن أن تكون بدون فائدة إضافية وبدون أثر في موجب الحكم. ومفارقة الجماعة، أو الخروج عن الجماعة، كانت تعني التمرد والعصيان والمحاربة، وربما الانضمام إلى العدو المحارِب. وهذا ما جاء صريحًا في روايات أخرى لهذا الحديث. فعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يُرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يُقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يَقتل نفسا فيُقتل بها". وفي رواية النسائي، والطحاوي في مشكل الآثار، عن عائشة أيضا: "..أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله ورسوله، فيُقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض. وبهذا يظهر أن موجبات قتل المرتد، هي ما يقترن بالردة من خروج عن الجماعة وحمل للسيف عليها. كما يظهر أن القتل ليس هو العقوبة الوحيدة الممكنة لمثل هذه الحالة. وفي جميع الأحوال تبقى قاعدة "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" أصلا سالما مسلَّما، لا يمكن نسخه أو نقضه، ولا القبول بأي شيء ينفيه، كليا أو جزئيا. * قال تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" فحكمة الله التي لم تأخذ بالإكراه في الدين، حتى في صورة كونه ممكنا ومجديا وهاديا، لا يمكن أن تقره حيث لا ينتج سوى الكذب والنفاق وكراهية الإسلام وأهله. * وبهذا يظهر أن موجبات قتل المرتد، هي ما يقترن بالردة من خروج عن الجماعة وحمل للسيف عليها. كما يظهر أن القتل ليس هو العقوبة الوحيدة الممكنة لمثل هذه الحالة. وفي جميع الأحوال تبقى قاعدة "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" أصلا سالما مسلَّما، لا يمكن نسخه أو نقضه، ولا القبول بأي شيء ينفيه، كليا أو جزئيا.