الإفلاس يطاردها بسبب نقص المقروئية منذ صدور أول عدد من صحيفة (شارلي إيبدو) الفرنسية قبل 44 سنة حتى الأربعاء تاريخ الهجوم الذي أودى بحياة كوكبة من كتابها ورساميها، ظلّت الصحيفة تدفع ثمن جرأتها في السخرية من رموز الدين والسياسة داخل فرنسا وخارجها. كما أن خطّ الصحيفة التحريري اليساري ساهم في إخفاقها في جذب الإعلانات، ممّا جعلها تعاني ضنكا في العيش أدّى أحيانا إلى اختفائها من الأكشاك لفترات طويلة. حينما رأت (شارلي إيبدو) النور في عام 1970 أراد القائمون عليها أن تكون امتداد لصحيفة (هارا كيري) الساخرة التي أقدمت السلطات على حظرها قبل سنة من ذلك الوقت، بعد نشرها مقالا ورسوما ساخرة بشأن وفاة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول الذي تنظر إليه أغلبية واسعة من الفرنسيين بوصفه بطلا قوميا قاد المقاومة الوطنية للاحتلال النازي في أربعينيات القرن الماضي وخلص البلاد من ورطة الحرب على الجزائر. واعتمدت الجريدة على الرسوم الكاريكاتيرية ومارست الصحافة الاستقصائية من حين إلى آخر، مركّزة نقدها على اليمين المتطرف وعلى الظاهرة الدينية انطلاقا من رؤية يسارية جذرية تسخر من كل المعتقدات الدينية. ولم تستطع الصحيفة الصمود في مواجهة نقص القراء ونضوب موارد الإعلانات وقلة الاشتراكات، فاختفت عام 1982 لتعود للظهور بعد عقد كامل في العام 1992. * معارك اليسار الجذري بدأت الصحيفة -بدفع من مدير تحريرها فيليب فال- بالابتعاد عن جزء من اليسار المحلي حينما أدانت كل الذين رفضوا التضامن مع الولايات المتّحدة بعيد هجمات 11 سبتمبر 2001، ثمّ ما لبثت أن تبنّت في بعض كتاباتها أطروحات الصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي المعادية للإسلام. وفي ذلك السياق، أعادت الصحيفة في 2006 نشر رسوم مسيئة إلى النبيّ (محمد) صلّى الله عليه وسلّم تضامنا مع صحيفة دانماركية كانت قد أثارت غضبا واسعا لدى المسلمين بعد إقدامها على عرض تلك الرسوم. وقد اعتبر الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك أن (شارلي إيبدو) قامت ب استفزازات جلية) للمسلمين، إلاّ أن رسامي الصحيفة حظوا بعيد ذلك بتكريم من وزارة الثقافة المحلية. وقد رفعت جمعيات إسلامية دعوى قضائية ضد الصحيفة، إلاّ أن القضاء الفرنسي أحجم عن إدانتها. وفي نوفمبر 2011 أحرق مقر الصحيفة في باريس وتعرّض موقعها الالكتروني للقرصنة بعد ما أعلنت نيتها نشر عدد يتضمن إساءة لنبي الإسلام. * الرسوم المسيئة ثمّ تكرّرت الأحداث في السنة التالية حينما أقدمت الأسبوعية الساخرة على نشر رسومات جديدة للرسول الكريم، وردّ قراصنة على ذلك بتعطيل موقع الصحيفة على الأنترنت. وفي جانفي 2013 نشرت الصحيفة إصدارا يحتوي صورا وصفت بالصادمة عن حياة النبيّ عليه الصلاة والسلام. وظلّ مدير المجلة ستيفان شاربونيه -المعروف اختصارا ب (شارب)، وهو رسّام بالغ من العمر 48 عاما- يدرج هذه الخيارات التحريرية ضمن ممارسة حرية التعبير، وهو الذي كان من بين قتلى هجوم الأربعاء. وقتل المهاجمان -إضافة إلى مدير المجلة- سبعة من أعضاء هيئة التحرير، أبرزهم جان كابو (76 عاما) الذي يعدّ أحد روّاد الفنّ الكاريكاتيري بفرنسا، وجورج ولينسكي (80 عاما) الذي كان ينظر إليه بصفته عميدا وأبا روحيا للعديد من الرسّامين المحليين. كما فقدت الأسبوعية رسّاما آخر عُرف بسخريته اللاّذعة هو برنار فيرلاك الملقّب ب (تينيوس) الذي غادر الحياة عن عمر ناهز ال 75 عاما. وقد أدّى الهجوم أيضا إلى مصرع فيليب هونوري (73 عاما)، وهو أحد أعمدة الصحيفة التي تعتمد مبدأ (الإكثار من الرسوم والاقتصاد في النصوص). * آخر عدد.. صدر العدد الأخير للصحيفة الفرنسية (شارلي إيبدو) قبل تعرّض مقرّها الأربعاء لهجوم دام (إرهابي) تحت عنوان (توقّعات المنجم ويليبك: في العام 2015 أفقد أسناني.. وفي 2022 أصوم شهر رمضان!). ويشير عنوان الصحيفة التي طالما أثارت الجدل جرّاء تناولها بعض المواضيع الحسّاسة ونشرها صورا مسيئة إلى الإسلام، إلى المخاوف التي تعتري بعض فئات المجتمع الفرنسي من ما يطلقون عليه (أسلمة فرنسا). وتزامن صدور العدد الذي أشار إلى توقّعات بشأن عام 2022 مع إطلاق رواية الكاتب ميشال ويليبك المثيرة للجدل (سوميسيون) (الاستسلام) التي تتناول بدروها مزاعم عن (أسلمة المجتمع الفرنسي). وتبدأ قصّة (الاستسلام) عام 2022 في فرنسا المشرذمة والمنقسمة على نفسها مع انتهاء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند وفوز أحد الزعماء المسلمين بالرئاسة. ويبتكر الكاتب شخصية محمد بن عباس، زعيم حزب (الأخوية الإسلامية)، الذي يفوز على زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بعد حصوله على دعم أحزاب يسارية ويمينية على السواء. والصحيفة الساخرة مهدّدة بالإفلاس وتعاني عجزا وتبيع ما معدله 30 ألف نسخة، وكانت قد أطلقت في الآونة الأخيرة نداء لجمع تبرعات حتى لا تضطرّ إلى التوقّف عن الصدور.