أصدر 13 مؤلفا بعضها في أكثر من جزء، تتناول قضايا سياسية وفكرية وذكريات مع الرؤساء، ويضم رصيده الصحفي مئات المقالات والحوارات في الصحف الوطنية والدولية، وقد نزل ضيفا على العديد من الحوارات المتلفزة في الجزائر وخارجها.. ومع ذلك تشعر وأنت تتحدث إليه أنه مازال في جعبته الكثير ليقوله.. هو مجاهد ودبلوماسي ووزير ومفكر وكاتب وإعلامي، ومستشار لثلاثة من رؤساء الجمهورية: بومدين وبيطاط وبن جديد، رحمهم الله.. مناصب وصفات وأوصاف منحته صفة الشاهد على العصر ، ومنزلة المتميز بامتياز، وجعلته واحدا من خيرة ما أنجبت الجزائر من رجال في العصر الحديث.. إنه الدكتور محيي الدين عميمور، الذي فتح قلبه ل أخبار اليوم وتحدث عن ملفات وقضايا عديدة تخص الماضي والحاضر بصراحته المعهودة وعمقه الفكري المشهود، فكان هذا الحوار.. حاوره: الشيخ بن خليفة أخبار اليوم : ابتعدت عن الساحة السياسية منذ أكثر من عشر سنوات. وهل يمكن القول أن الدكتور عميمور اعتزل العمل السياسي؟ وما خلفيات هذا التحفظ في الحديث عن أمور السياسة الوطنية؟ = الدكتور محيي الدين عميمور: العمل السياسي هو أساسا تعامل مباشر مع الشأن العام إدارة لحركته وفهما لمساره وتعرفا على أبعاده، ثم التأثير على مجريات الأمور في الاتجاه المطلوب، وعندما تتوقف الممارسة الفعلية المباشرة للعمل السياسي يصبح النشاط الفردي، عند غير المهيكلين في مؤسسات حزبية حقيقية، مجرد متابعة لما يمكن أن يثير الاهتمام الشخصي، وهي بالتالي غالبا ما تكون انتقائية، ولهذا أرفض الحديث عمّا لا أعرف كل معطياته وأبعاده، ولعل هذا هو ما اعتبرته أنت تحفظا. والمؤسف أن مؤسساتنا لا تحسن الاستفادة ممن انتهت ممارساتهم العامة، وإلى درجة يبدو معها الأمر وكأنهم سعداء بالتخلص من الإطارات التي تنتهي أو تنهى مهامها الإدارية، والغريب أنه في الوقت نفسه نجد أن مؤسسات أجنبية كثيرة، خاصة في المجال الثقافي، تستفيد من إطاراتنا الذين انتهت علاقاتهم بالمؤسسات الرسمية أو الحكومية، وتهتم بآرائهم وتتعامل إيجابيا مع مواقفهم وأفكارهم، وعلى وجه المثال، رئيس المجلس الأعلى للغة العربية تستفيد منه حاليا أبو ظبي بحيث استقر فيها منذ سنوات بعد أن أنهيت مهامه، وهناك آخرون في مثل وضعيته، خصوصا في مجال الطاقة أو الإعلام، وأنا شخصيا كنت لثلاث سنوات عضوا في مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية في دبي، ولثلاث سنوات أخرى عضوا في هيئة المستشارين لمؤسسة الفكر العربي في بيروت، وكلها مهام قمت بها تطوعا، أي بدون أجر أو مرتب. وفي الوقت الذي كُرمتُ فيه في الكويت بمرتبة الشخصية الثقافية لعام 2001، وفي دبي عام 2010 بجائزة الصحافة العربية، وفي الرباط عام 2012 بميدالية الإيسيسكو، لم أتلق أي تكريم في بلادي من أي هيئة رسمية معنية بالثقافة، باستثناء تكريم مشكور من المجلس الأعلى للغة العربية منذ نحو عامين. بل أن جهودي ورفقاء آخرين لإنجاح سنة الثقافة العربية، بما في ذلك جولات خارجية لم تكلف الجزائر دينارا واحدا، لم تقابل بحفل تكريمي بسيط أو بهدايا رمزية في نهاية التظاهرة، ووصل الأمر إلى حدّ أن الكتاب الذي أصدرَته الوزارة المعنية لم يتضمن صورة واحدة لي، برغم أنني كنت إلى جانب الوزيرة في كل التظاهرات، وبطلب ملحّ منها، وخلا الكتاب الضخم من اسمي أو أسماء لمين بشيشي وكمال بو شامة والعربي الزبيري وأحمد حمدي، وقد كان لكل منهم دور في إنجاح التظاهرة. ومن هنا يمكن القول أن مؤسساتنا المعنية تفتقد منطق الدولة، لكيلا أقول ما يمكن أن يخرج عن نطاق الأدب واللياقة، وتصرفات كتلك تشجع الإنسان على الاعتكاف، ولعل هذا ما يريده البعض. * لم يمنعك ابتعادك عن الساحة السياسية من مواصلة التعبير عن آرائكم من مختلف القضايا من خلال مقالات تُنشر في الجزائر وخارجها. يبدو أنك لا تتخيل نفسك بعيدا عن القلم، وعن شخصية الكاتب م. دين التي عُرفتم بها في عقود ماضية؟ = من حسن الحظ أن الوسائل الحديثة لِبث المعلومات تكفل حجما لا بأس به من المعطيات، وبالتالي فأنا أتابع من الأحداث ما أراه جديرا بالاهتمام وأملك عنه الحجم الضروري من المعلومات التي تكفل عمق الدراسة وموضوعية الرأي وسداد الحكم، وأقوم بذلك كتابة أو عبر حوارات إعلامية متلفزة، وكل ذلك يلتزم باحترام أخلاقيات التعامل الفكري النزيه، وبمراعاة منطق الدولة والتزامات من عمل في خدمتها سنوات وسنوات. والكتابة بالنسبة لي هي إفراز طبيعي لا أملك التوقف عنه، وأراه ضرورة لتوازني النفسي من جهة وللقيام بواجب المثقف الوطني من جهة أخرى. * كيف تنظر إلى الجزائر اليوم؟ وهل كان بالإمكان أفضل مما هو كائن اليوم؟ = أعتقد أن وفاة الرئيس هواري بومدين المُبكرة جدا، ثم التصفيات التي عرفتها جبهة التحرير الوطني وخصوصا في منتصف الثمانينيات، ثم أحداث 1988 التي ثبت أنها كانت مفتعلة كما أكد ذلك الجنرال خالد نزار، ثم قانون الانتخابات التشريعية في نهاية الثمانينات والذي اعتمد على نظام الأغلبية مما خلق تناقضا بين عدد الأصوات الانتخابية وعدد المقاعد المحصلة في البرلمان، ثم الانزلاقات المأساوية في العشرية الحمراء التي خربت كل شيء وخصوصا الكثير من الذمم في كل المستويات، كل هذا كان له أثر سلبي على مسيرة الجزائر، ولولاه لكان بالإمكان أفضل مما هو كائن اليوم، فقد اختلت الموازين وضاعت الهيبة وأصبحت الأمور تدار بمنطق الترابندو، واستأسد تجار الشنطة الذين أعطتهم التحالفات مع بعض مراكز القوى إمكانيات مالية هائلة، أصبحت اليوم تحاول التأثير على مسيرة الحكم وربما التحكم فيه. وأنت تذكر أن الرئيس بومدين تنبأ بهذا عندما حذر قبل وفاته من كولون جزائري سيكون أكثر توحشا وشراهة من الكولون الاستعماري. * ما تقييمك للمبادرات السياسية المختلفة التي ظهرت مؤخرا، وفي مقدمتها مبادرة حزب جبهة القوى الاشتراكية الباحث عن إجماع وطني من خلال ندوة ؟ = لست مقتنعا بما أراه على الساحة، وأرى أنه يعتمد في تحركاته على نخب لا أعتقد أنها مرتبطة بجذور شعبية كافية، أو أنها تعبر ديموقراطيا عن إرادة الجماهير، ويبدو لي أن كثيرا مما نسمع عنه من بعض القيادات التليفيزيونية هو مجرد تسجيل مواقف أحيانا، أو بحثا عن عذرية جديدة أحيانا أخرى، ويرتبط هذا بالجري وراء قطار خرج عن قضبانه. * تحتفل الجزائر بذكرى تأميم المحروقات. كيف عايشتم القرار التاريخي الذي أعلنه الرئيس الراحل هواري بومدين؟ وهل تعرضت الجزائر لضغوط فرنسية حينها للعدول عن هذا القرار؟ = لم أكن قد بدأت عملي بعدُ في الرئاسة عندما أعلن الرئيس هواري بومدين عن قرار تأميم البترول في 24 فبراير 1971، وفي حدود ما عرفته فإن ضغوطا كثيرة مورست على الجانب الجزائري في المحادثات حول البترول، والتي رأس الوفد الجزائري فيها على ما أذكر وزير الخارجية الجزائري آنذاك، والرئيس الحالي للجمهورية. ويجب أن أذكر هنا بعقلانية تعامل الرئيس بومدين مع قضية التأميم، فقد أخذ في الاعتبار تجربة الرئيس محمد مصدق في إيران، والتي أجهُضت بالمقاطعة العالمية للنفط الإيراني، وهكذا قامت الجزائر بتأميم 51 في المائة فقط من النفط، وحافظت بالتالي على شعرة معاوية مع الشركات النفطية الأجنبية، واستفادت من جهودها في التنقيب والتسويق. وأذكر أيضا بأن الجزائر كانت قد أعدت للأمر عدته، حيث انطلقت في الاستعداد لعملية استثمار الغاز الطبيعي بجانب البترول، وفي هذا الإطار كانت أهمية فتح خطوط الاتصال مع أمريكا، والذي قام فيه بدور متميز المرحوم مسعود زقار، وهذا كله أضعف الضغوط الحكومية الفرنسية، مع التذكير أيضا بأنه كان للجزائر وجود مؤثر في الساحة الفرنسية عبر الاتصالات الحزبية، التي قامت فيها ودادية الجزائريين في أوربا بدور فعال، بجانب العديد من أصدقاء الجزائر، وكانت الجزائر قوة مؤثرة على ساحة العالم الثالث، والوطن العربي والقارة الإفريقية في المقدمة. * تبدو الجزائر مهددة بضائقة مالية لا قدّر الله في حال استمرار أزمة انهيار أسعار النفط. هل أخطأت السلطة في تسيير البحبوحة المالية طيلة سنوات الرخاء ؟ وما المطلوب منها لتخرج الجزائر بسلام من سنوات الشدة ؟ = المؤكد أننا تصرفنا بشكل لا يختلف كثيرا عن تصرفنا في بداية الثمانينيات، إن لم يكن التعامل أكثر سوءا، لأن سلطة الدولة آنذاك لم تكن مخترقة بنفس العمق من قبل جماعة الترابندو التي تدعمها عناصر نافذة، مما أدى إلى نزيف مالي كبير ارتبط بعمليات خبيثة عملت على انهيار قيمة الدينار الجزائري، بحيث أن الدولار الأمريكي أصبح يعادل اليوم نحو 14 دينارا، في حين أنه كان بنفس قيمة الدينار تقريبا منذ ثلاثين سنة. والمطلوب اليوم هو اعتماد العقلانية في التعامل مع الواقع، وقيام كل مؤسسة وطنية، وفي مقدمتها المؤسسات المنتخبة، بدورها في تسيير الشأن العام، وإشراك المواطن في المسؤولية عبر تنظيمات مجتمع مدني لا يعتمد على مرتزقة الانتخابات والباحثين عن التموقع السياسي عبر جمعيات من المفروض أنها لا تمارس السياسة.. * نعلم مدى قربك من دائرة صنع القرار في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. كيف كان هذا الأخير سيتعامل مع أزمة كهذه..؟ = أكتفي بالتذكير بأن الرئيس بومدين لم يكن يتخذ قرارا قبل القيام بعملية سبر آراء واسعة، سواء عبر المؤسسات السيادية مثل مجلس الثورة أو الحكومة، أو عبر لقاءاته مع السلطات المحلية والمنتخبين في زياراته للولايات، أو من خلال لقاءاته المتعددة مع من يرى الحكمة في آرائهم والموضوعية في تحليلاتهم. وعندما كان يقول: قررنا، بصيغة الجمع، وليس: قررتُ، بصيغة المفرد، كان يعني ما يقول ويؤمن به، لأنه لم يكن يتحدث باسم فرد ولكن باسم أمة. * أثارت قضية استغلال الغاز الصخري بمنطقة عين صالح ضجة كبرى أعقبتها احتجاجات وقرارات.. ما موقف الدكتور عميمور من هذا القضية؟ = لا أملك كل المعطيات التي تسمح لي بإعطاء رأي موضوعي في هذه القضية، لكنني أذكرك بما قلته حول القرارات السيادية، فهذه القضايا يجب أن تقتل بحثا ودراسة عبر الأجهزة المختصة والمؤسسات المنتخبة من جهة، ومن خلال وسائل الإعلام من جهة أخرى، بحيث يدلي كل العارفين بآرائهم، ونستعين فيها بخبرات الدول التي سبقتنا في التعامل مع هذه القضية. ويجب أن أذكر هنا بالأخطاء التي ارتكبناها عندما تجاهلنا الواقع الذي يجعل من المؤسسات المنتخبة رقيبا حقيقيا على مسيرة التنمية، يكفل للسلطة التنفيذية وضوح الرؤية، وبحيث لا تكون تلك المؤسسات مجرد حلية ديموقراطية زائفة أو ديكورا مسرحيا لا يقنع أحدا بجديته وفعاليته. ولعلك تذكر أنني قلت هذا كتابيا في 1998، عندما عينت في الثلث الرئاسي لمجلس الأمة، وجرّ علي انتقادات كثيرة ممن كانوا يتصورون أن تعييني في المجلس معناه رشوتي للسكوت عمّا أراه يتطلب النقد. * ماذا عن التقسيم الإداري الجديد؟ وهل يتعلق الأمر بمحاولة لتصحيح بعض الاختلالات الإدارية أم أنه مجرد محاولة لإرضاء سكان بعض المناطق؟ وما هو التعامل المناسب، في تقديركم، مع مواطني الدوائر غير المعنية بالترقية إلى ولايات الذين خرجوا في احتجاجات؟ = ينطبق الأمر هنا أيضا على ما سبق أن قلته من أنني لا أملك معطيات كافية، وبأن هذه القضايا يجب أن تسبقها دراسات معمقة ومشاورات موسعة، وتطرح بكل شفافية عبر كل وسائل الإعلام. * يشغل موضوع مراجعة الدستور الساحتين السياسية والإعلامية منذ شهور عديدة وسط لامبالاة شعبية. ما رأيك في ما حملته مسودة الدستور؟ وما تفسيرك للبرود الشعبي في التعاطي مع المسائل السياسية؟ = عندما تزايد الحديث عن تعديل دستوري في 2008 كتبت هنا وفي الخارج، مذكرا بأن دستور 1976 ضمن للبلاد الانتقال السلس للسلطة إثر وفاة الرئيس بومدين، وبالتالي تفادي أي توتر يمس باستقرار البلاد، لأن ذلك الدستور كان مبنيا على تجربة ميثاق وطني، نوقش جماهيريا قبل إقراره، وتم بعد إثرائه بآراء المواطنين من كل الاتجاهات والمستويات. وذكرت يومها بفشلنا في كل الدساتير التالية لأننا لم نسر على نفس المنوال، وهو ما يفسر اليوم برود التعامل الشعبي مع الأمر كله، وليس عندي جديد أضيفه. * ما تقييمك لواقع تعليم اللغة العربية في الجزائر؟ وما هي معوقات التعريب وتعليم لغة الضاد؟ وهل هناك مؤامرة على العربية في الجزائر؟ = القضية ليست قضية تعليم اللغة العربية وحدها بل هي قضية التعليم كله، والذي أصبح، في حدود ما أعرف، كارثة كبرى، لأننا نسينا أن التعليم يجب أن يرتبط بالتربية، ولم ندرك أن قاعدة التعليم الفعال هي المحيط الذي يسمح للتلميذ بالاستفادة من المدرسة، التي يتكامل دورها مع دور الأسرة في المنزل، والمنهج الدراسي المحكم والمتوازن والذي لا يكتفي بتلقين المعلومات بل يعطي للتلميذ فرصة التفتح التي تعده ليكون عنصرا نشطا في المجتمع، والاستقرار الفعلي في البرامج الدراسية، لكيلا تكون عرضة للإلغاء أو للتأجيل نتيجة بعض النزوات أو الضغوط المشبوهة. * أي ضغوط مشبوهة؟ = تدريس اللغة الفرنسية مثلا، والذي كان يبدأ في سنة معينة من الدراسة الابتدائية، ثم قدمت دراسته سنة ثم أخرت مرة أخرى، وهناك تدريس اللغة الإنجليزية واللغات الحبّة الأخرى، والتي ووجهت بعراقيل لتنفر الطلبة منها. * ماذا تقصدون بذكر الجو المدرسي والمنهج الدراسي ودوره في التفتح؟ = لم نعد في الستينيات، حيث نقص عدد الفصول الدراسية كان يخلق مشاكل كثيرة بالنسبة لمقدرة التلميذ على الاستيعاب وعلى قدرة المعلم على التحكم في الفصل الدراسي، واليوم نحن نعيش بحبوحة مالية يجب ألا تمتصها المهرجانات والنفقات العشوائية بل يجب أن نستفيد منها في تقليص عدد الطلبة في الفصل الدراسي، وحسن رعاية المعلم وحسن تكوينه وإعطائه الاحترام اللازم ماليا واجتماعيا. ويجب أن يتم إنشاء جمعيات للنشاط الاجتماعي والفني، وأنت تعرف أن كثيرا من الفنانين العالميين، رسامين وممثلين وموسيقيين، بدءوا نشاطهم في المدارس والثانويات ثم الجامعات، وهو ما رفع من مستوى الفنانين في العالم كله ولم يعودوا تجمعا من الأميين. ولقد كنت أستعد، مع الأخ عمر صخري، لتكوين جمعيات للموسيقى وللتمثيل وللرسم داخل الجامعات، وتحمس وزير التعليم العالي للفكرة، ولكن المقام لم يطل بنا في مواقعنا لتنفيذ الفكرة. وأنت تعرف أن التعليم كان على رأس اهتمامات الدولة إثر استرجاع الاستقلال، ولقد قال لي المرحوم عبد الحميد مهري يوما أن الرئيس بومدين قال له حرفيا: سنضع كل إمكانياتنا للتعليم، حتى ولو اضطررنا لبيع أقمصتنا. ونحن اليوم لسنا مضطرين لبيع أقمصتنا لضمان حسن تكوين أبنائنا. * قيل أن انطلاقة التعليم عندنا كانت عرجاء نتيجة لأن الدول العربية أرسلت لنا معلمين غير أكفاء، كانوا وراء التعصب الديني الذي عرفناه بعد ذلك.. = انطلاقة التعليم اعتمدت أساسا على معلمين جزائريين، كان معظمهم من معلمي المدارس الأهلية، وتم تكوين سريع لعدد من الممرنين لاستكمال العجز، كما استفدنا من الأشقاء الذين أرسلت بهم بعض الدول العربية إلينا، وأذكر هنا بأن فرنسا رفضت في البداية تزويدنا بالمعلمين. أما التشكيك في كفاءة المعلمين العرب فهذا ما كان يردده خصوم التعريب أو بعض الممرنين الحسودين، ولقد عرفت كثيرين ممن أرسل بهم إلينا وكان مستواهم العلمي جيدا، ولقد عرفت الجزائر بعض صور التعصب الديني ولكن بعد أن غادرنا المشارقة بسنوات وسنوات، وكان وراء ذلك دعاة مشبوهون تزايدت أعدادهم مع الغزو السوفيتي لأفغانستان، وذلك بتخطيط أمريكي وبتمويل خليجي. لكنني أعترف أن بعض المعلمين الذين جاءونا من المشرق كانوا من مناطق ريفية، ولا يحسنون الالتزام بالأزياء العصرية والموضة الحديثة التي ألفناها نحن عبر التعامل مع الأوربيين، بالإضافة إلى استعمال كثيرين منهم لهجات محلية صعبة الفهم عندنا، واستعمال آخرين لغة فصحى لم يألفها أبناؤنا، الذين كانوا يواجهون في المحيط العام بلغات ولهجات متناقضة معها. والمهم هنا هو أن ندرك بأن التعليم عندنا عاش ويعيش مؤامرة كبرى، هدفها النهائي تشجيع المدارس الخاصة التي لا يمكن أن يدخلها إلا أبناء القادرين ماليا، وكثير من هذه المدارس، كما قيل لي، يحظى بدعم سفارات أجنبية، والمحصلة في نهاية الأمر إعداد نخبة قيادية مختارة من أصحاب الأموال للتحكم في مفاصل الدولة في مرحلة قادمة، حيث أن الأغلبية من أبناء الشعب التي تتخرج من المدرسة العامة ستكون سيئة التكوين ضعيفة الإعداد، وهكذا نسقط في فخ حكم النخبة، والتي قد يكون كثير من أفرادها مرتبطا بالخارج، حيث استكمل تكوينه وحظي برعاية لعلها كانت ذات خلفيات معينة. وأنا أقول أن علينا اليوم أن نجعل من التعليم أسبقية الأسبقيات، تماما كما كان إثر استرجاع الاستقلال، والتعامل معه يجب أن يخضع لدراسة إستراتيجية تتم عبر كل مؤسسات الدولة، ولا تقتصر على الوزارات المعنية مباشرة بالتعليم، لأن هذه القضية بالأمن القومي (SECURITE NATIONALE) للبلاد. * ماذا عن اللغة العربية؟ = سبق أن قلت في مناسبة أخرى بأننا وقعنا في الفخ الذي صوّر لنا بأن الفرنسية هي غنيمة حرب ، وهو تعبير يعيد إلى الذاكرة قرونا خلت، كان المُقاتل فيها يخوض غمار حرب شرسة، فإذا ظفر فإنه يعود بغنائم، ربما كان من بينها سبيّةً يجعل منها محظيّة أو خليلة إذا كانت شابة وجميلة ومتألقة، أو يكلفها بمهام الخادمة أو ما دون ذلك، إذا كانت غير ذلك. لكننا عشنا العجب العُجاب، فالسبيّة، التي لم تكن بريجيت باردو أمس ولا نانسي عجرم اليوم، استولت على عقل مالكها وخلبت لبّه، فسلمها لحيته وأسلم لها قيادَه، ولأنها لم تكن تؤمن بالتعددية وكانت ترفض المساواة فقد طردت زوجه وأبناءه، وجاءت بأهلها فأسكنتهم المنزل وسلمتهم مفاتيحه، وأرغمت بعلها الجايح على أن يكتب كل أملاكه باسمها، وتعطفت عليه في نهاية الأمر فخصصت له غرفة مهجورة يلفظ فيها أنفاسهُ الأخيرة، وراحت تقضي نهارها هائمة ومساءها راقصة وليلها عاشقة لأي عابر سرير. وهكذا سادت في بلادنا لغة سانت آرنو وبيجار ولاكوست ، التي كان مولود قاسم رحمه الله يردد بأنها أصبحت لغة متخلفة، مقارنة باللغات الأخرى كالإنغليزية، والتي هي اليوم لغة العلم وأداة العلماء، والإسبانية التي تتحدث بها نحو ثلاث قارات، والصينية التي يتعامل بها خمس سكان العالم، والألمانية التي تشق طريقها نحو العالمية. وبأموال الدولة، التي استعادت استقلالها بدماء ملايين الشهداء واسترجعت ثرواتها بتضحيات أجيال وأجيال، ازدهرت لغة الخادمات (femmes de ménage) والكونسييرجات (concierges) وازدادت صفاقة بعض حملة لواء الفرانكفونية فتحولوا إلى الفرانكوفيلية ثم إلى الفرانكومانيا الممتزجة بالأرابوفوبيا والحساسية المرضية من كل ما تفوح منه رائحة العروبة والإسلام. ونتيجة للتراخي المُعيب لمن يعنيهم الأمر أو يجب أن يعنيهم الأمر استطاع التسونامي الفرنسي التهام معظم المجالات، خصوصا مجالات الإعلام والثقافة، وأصاب المُحيطَ الاجتماعي والاقتصادي ومعالم العمران ومجالات البيئة بأسوأ مظاهر الاستلاب. * حتى تعليم اللغات الأجنبية يواجه إشكالات معقدة في الجزائر. هل تحظى الفرنسية بالأولوية في التعليم أن تفضيلها مجرد أمر واقع إداريا لا أكثر؟ وكيف ترى واقع تعليم بقية اللغات؟ = أنت تستعمل تعبير اللغات الأجنبية، وواقعنا يقول أن بعض ممن أداروا شؤون البلاد تصرفوا على أساس أن الفرنسية هي لغة وطنية ثانية، وهذا خلَطَ الأوراق، وأفسد كل تخطيط عقلاني للتعامل مع قضية اللغات الأجنبية، ووقعنا بالتالي فريسة للفرانكوفيلية، وأصبح واقع الجزائر اليوم من الناحية اللغوية شيئا يشبه مرض انفصام الشخصية، وهو ما أثر على قوة الانتماء الوطني، وأثار مشاكل مفتعلة حول الهوية، كانت خلفيتها الحقيقية العداء العنصري الحاقد للغة العربية. * ماذا عن الأمازيغية؟ خصوصا أن بعض الكتاب الفرنسيين يثيرون نعرة التفرقة بين عرب الجزائر وأمازيغها. ما خلفيات هذا المسعى الخبيث؟ وكيف يمكن التصدي له؟ = قضية الأمازيغية، كعدد من القضايا الأخرى، وقعت فريسة لبعض تجار المواقف ومرتزقة الشعارات، وبوجه خاص أعداء العربية من الفرانكوفيليين، وهكذا طرحت في الشارع ليتناولها الدهماء والجهلة والمغرضون، في حين كان المفروض أن تناقش على مستوى الباحثين والدارسين والمؤرخين، ليوضع كل شيء في مكانه الطبيعي، ويتم التعامل مع قضايا الهوية والانتماء بالشكل السليم الذي لا يجعل منها مادة للتوتر والصراع. أنت تعرف أن تركيز الحركة الوطنية خلال مرحلة المقاومة كان تأكيد التمسك بالعروبة وبالإسلام، لأن تدمير هاذين العنصرين كانا الشغل الشاغل للإدارة الاستعمارية، التي تؤكد كتابات فرنسية كثيرة محاولاتها لخلق الشنآن بين العربية والبربرية، طبقا للتعبير المستعمل عبر العقود الماضية، وكان التصور الاستعماري هو أن تدمير العربية سيؤدي بالضرورة إلى تخريب الانتماء الإسلامي، وكل هذا مكتوب بالأسود على الأبيض كما يُقال في العديد من الكتب والدراسات الاستعمارية، ونراه بكل أسف في تصرفات بعض من يتغنون بالأمازيغية، وخصوصا في شهر رمضان. والناس ينسون أن كلمة الأمازيغية لم تكن متداولة بشكل واسع، حيث كانت تستعمل بدلا منها صفة البربرية، إلى أن أشار الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله باستعمال كلمة الأمازيغية في 1980، بناء على تقرير قدمه له أحد مستشاريه، بعد دراسة أجراها عدد من المثقفين على مستوى الرئاسة، أكدت أن لكلمة البربرية معنى قدحيْ. القضية بالتالي هي جزء من المخطط الاستعماري وهدف بعض المنادين بها كان واضحا، وهو تسويق الادعاء بأن هناك أقلية أمازيغية مسحوقة من قبل الأغلبية العربية، ثم استغلال المناطق التي تستعمل إحدى اللغات الأمازيغية، وهي خمسة لهجات في الجزائر، كطائرة مختطفة لتحقيق مكاسب شخصية، وستلاحظ أن أغلبيتهم الساحقة تترفع عن الحديث بالعربية، وتقمع أبناءها فارضة عليهم الفرنسية بجانب اللهجة المحلية، زارعة فيهم تعصب الأقلية. *هم جهلة أو مغرضون؟ = الاثنان معا. ليس سرا على المؤرخين النزهاء أن الذين حملوا راية الإسلام إلى الشمال الإفريقي كانوا عدة آلاف ذابوا في الأغلبية البربرية أو الأمازيغية، وبالتالي فإننا جميعا أمازيغ عربنا الإسلام، ولا تناقض بين العمق التاريخ الأمازيغي والانتماء الحضاري العربي الإسلامي، والمستعمرون الفرنسيون تجاهلوا أن العمق التاريخي الغالي (GAULOIS) لم يتناقض مع الانتماء الحضاري الفرنسي، ولم يفرض الاستعمال الرسمي للغة الغالية، وهي لغة صلتية مهجورة لعجزها عن مواكبة التطلعات العالمية، وهو في ذلك يشبه اعتزاز المصريين بالانتماء للعمق الفرعوني بدون أن يدفعهم ذلك للتشبث بلغة تمثل واحدة من أعظم الحضارات العالمية، وهي الهيروغليفية، على حساب اللغة العربية التي وضعتهم في طليعة المنطقة، ومكنت أدباءهم من الحصول على جائزة نوبل. ومن هنا فإن حماية اللغات واللهجات المحلية هو إثراء للثقافة الوطنية، بشرط ألا يُبنى على العداء للغة الوطنية والرسمية، وألا يكون متاجرة برصيد وطني، تهدف إلى تقسيم الأمة. والمضحك هنا أن الفرنسيين جعلوا حراما علينا ما اعتبروه حلالا لهم، لأنه يتناقض مع مصالحهم التي تعمل وفقا لمبدأ: فرّق تسُدْ. * هل مازال الصراع الفكري بين الفرنكفونيين والفرنكفيليين من جهة والمعربين والقوميين من جهة ثانية قائما في الجزائر؟ كيف ترى مستقبله وما أبرز تجلياته في رأيك؟ = الصراع الحقيقي في نظري هو بين أعداء العربية (ARABOPHOBES) والذين يطلق عليهم تعبير الفرانكوفيليين (FRANCOPHYLES) وبين الرافضين للفرنسية (FRANCOPHOBES) سواء بتأثير الإحباط الناتج عن وضعية الإقصاء التي يعيشون فيها، وعن العداء الذي تواجه به العربية من قبل خصومها، أو لأنهم لم يدركوا أن العربية ليست سجنا لغويا يحول بينهم وبين الاستفادة من الثقافة الفرنسية. ومعظم من عرفتهم من المتمسكين بالانتماء العربي الإسلامي متفتحون على كل اللغات، ومنهم من يكتب ويقرأ بأكثر من لغة، في حين أن معظم من يستعملون الفرنسية يتخندقون فيها، ويفرضونها على غيرهم وأحيانا بأسلوب سمج، كأن يصر أحدهم أن يرد بالفرنسية على سؤال طرح بالعربية. * ما هي قراءتكم لواقع قطاع الثقافة في البلاد؟ وما الذي تغير قياسا إلى ما كان عليه خلال إشرافك عليه؟ = أتصور أننا لم نتعامل مع القضية الثقافية كبعد إستراتيجي يشكل واحدا من عناصر الأمن القومي، والذي جعل الرئيس بومدين يستعمل تعبير: الثورة الثقافية، كعنصر من ثلاثية النهضة الجزائرية. وأعتقد أن عدم الحسم الذي تعاملنا به مع قضية اللغة هو واحد من أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الوضعية المؤسفة، التي جعلت الثقافة مقصورة في الغالب على المهرجانات الغنائية والاحتفالات الراقصة، وربما كان من الأسباب أيضا عدم الاستقرار الذي عانت منه قيادة المؤسسات الثقافية، بعد الانطلاقة التي عرفتها في الستينيات والسبعينيات بفضل الرعاية العلوية والاستقرار الوظيفي، وقد أضيفُ إلى الأسباب الفصل بين جهاز الثقافة وجهاز الإعلام، والذي تم تقزيمه تحت اسم: الاتصال. أما بالنسبة لي شخصيا فلا أعتقد أن مروري العابر على وزارة الثقافة قد ترك أثرا مميزا يمكن أن أعتز به، ربما باستثناء إقامة المعرض الدولي للكتاب بعد توقف دام نحو 16 سنة، واستصدار القرار الحكومي بإلغاء الضرائب على الكتب المستوردة في إطار المعرض، ثم إقامة ندوة الأمير عبد القادر بالتعاون مع مؤسسة البابطين، وعقد المؤتمر العربي للموسيقى الذي انتخب فيه جزائري لنيابة الرئاسة، واستصدار قرار الجامعة العربية بجعل الجزائر عاصمة للثقافة العربية في عام 2007. * شهد قطاع الإعلام في السنوات الأخيرة انفتاحا كبيرا أثمر ظهور عدد غير قليل من القنوات الفضائية الخاصة. ما تقييمك لأداء هذه القنوات خصوصا؟ وأداء مختلف وسائل الإعلام الوطنية عموما؟ = إنشاء القنوات الفضائية الخاصة كان في تصوري عملا ارتجاليا لم يستفد من دراسة تجربة الصحافة الخاصة، وأعتقد أن تعبير الانفتاح ليس هو التعبير الصادق عن وضعية التبعثر والانفلات الإعلامي الذي نعيشه، لمجرد أننا لم ندرك أن الإعلام هو مهمة لها بعد إستراتيجي يرتبط بالأمن القومي للبلاد، ومن هنا فإن تقزيمه ليكون مجرد عملية اتصال يؤدي إلى غياب التصور العميق لمتطلباته، وهي صياغة الرأي العام على أساس تعميق الانتماء الحضاري وإثراء الحصيلة الثقافية وتحقيق التطور المجتمعي وبناء الحس المدني الذي يضمن سلامة المواطنة وأخلاقية التعامل الاجتماعي الحضاري. وبدون الغرق في تفاصيل معروفة يمكنك أن تطرح على نفسك تساؤلا بسيطا عن مدى التأثير الإيجابي لأجهزة الإعلام عندنا على تصرفات المواطنين اليومية. * كتبت قبل أيام مقالا قارنت فيه بين اليهوديين روجي حانان وأنريكو ماسياس، ألا تخشى أن يشجع دفن الأول في الجزائر وما رافقه من طقوس يهودية يهودا آخرين على التعبير عن رغبتهم في زيارة الجزائر؟ وهل يمكن أن يعد ذلك تطبيعا غير مباشرا مع الكيان الصهيوني بالنظر إلى ولاء اليهود الفطري للكيان الغاصب لفلسطين؟ = نحن منعنا الحركى الجزائريين، ممن وقفوا في صف المستعمر، من زيارة الجزائر، وهو نفس ما يطبق على الآخرين، لكننا استقبلنا أعدادا هامة من قدامى الجزائر الفرنسية، يهودا كانوا أم غير ذلك، ممن تفهموا استقلال الجزائر وتعاملوا معنا على هذا الأساس، وهو ما تجلّى في تصرفات روجي حانان، وحدث عكسه من أنريكو ماسياس، وبالتالي فالحسنة بعشرة أمثالها، والسيئة أيضا نتعامل معها بنفس الطريقة. ولقد قلت بأن من لم يعترضوا على منح وسام جزائري لروجي حانان في 2000 ليس من حقهم أن يفتحوا فمهم اليوم، لأن هذا هو مزايدة رخيصة. وأنا أفرق بين الديانة اليهودية وبين الاتجاهات الصهيونية، وأعرف يهودا كثيرين يتناقضون مع التوجهات الإسرائيلية، لكن كل شيء يعتمد على وعي شعبنا وعلى يقظة نخبته السياسية والفكرية، وخصوصا مؤسساته المنتخبة، وقد كتبت عن هذه الأمور بالتفصيل الذي لا أملك اجتراره هنا. والخطر الحقيقي يأتي من تراخي النخبة الوطنية في التعامل مع الانحرافات ووضعها عند حدها لحماية للبلاد من وضعيات تطبيع قد تنزلق إليها، كما تفضلت في سؤالك، مثل التراخي الذي عرفناه إثر زيارة صحفيين جزائريين لإسرائيل، والذي قيل أنه تم بتشجيع من مستويات قيادية أرادته نكاية حمقاء في التوجهات الإسلامية، ودفعت أنا ثمن التنديد به في حينه، عندما تحالف مدبّروه ضدي خلال مروري العابر بوزارة الثقافة والاتصال. * يُشهد لك وقوفك في صف المدافعين عن الهوية.. ماذا بقي من هوية الجزائر في ظل اكتساح التغريب والتغريبيين لشتى مناحي الحياة ومختلف القطاعات في البلاد؟ = الهوية الجزائرية العربية الإسلامية ثابتة وراسخة، ونظرة إلى العمق الجغرافية الجزائري تؤكد هذا، وبالتالي فيجب ألا تغطي شجرة بعض أحياء العاصمة وبعض المدن الكبرى على غابة الجزائر الكبيرة، أو على الأقل، هذا ما أرجوه وآمله. * يعود بين الفينة والأخرى إلى الواجهة الحديث عن جرائم فرنسا في الجزائر. هل ترون اعتذار باريس عن هذه الجرائم وتعويض الضحايا ممكنا؟ = كل شيء مرتبط بقوة بنائنا الداخلي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وبالوحدة الوطنية الحقيقية التي تتكامل فيها شرائح الأمة على ضوء نظرة إستراتيجية عميقة وواضحة ومحددة الأهداف، وبوجود مؤسسات ديموقراطية حقيقية متكاملة الأداء، وبقيام الإعلام الوطني بدوره في الدفاع عن مصالح الأمة، وهو ما يعني بكلمات بسيطة أن القوم هناك يخافون ولا يختشون، وأنت تذكر أن بيرليسكوني قبّل يد القذافي معتذرا عما ارتكبته إيطاليا في ليبيا، لأن ميزان القوة كان في صالح العقيد الليبي. * فيما تتواصل حرب الزطلة المغربية على بلادنا، يواصل مسؤولون مغاربة بارزون التحرش بالجزائر. ما قراءتك لهذا التحرش الذي يقف حائلا إلى جانب أسباب أخرى دون تقارب البلدين الشقيقين؟ = ما يجب أن ندركه جيدا هو أن القيادة المغربية، التي فشلت في تحقيق ما تنادي به في مختلف المجالات، تحاول تجنيد الشعب المغربي الشقيق حول فكرة العداء للجزائر، التي يدّعون أنها دولة خلقت في 1962، وليس لها تاريخ تعتز به كتاريخ دولة المغرب، وهي تغير من المملكة المغربية العريقة، وقد منحتها فرنسا مساحات هامة من الأرض المغربية، وهي تواصل تشجيع الانفصاليين (البوليزاريو) كما يطلق على الصحراويين... إلى غير ذلك من التفاهات التي زرعت في أوساط الشعب المغربي بمختلف فئاته وشرائحه. * ما مدى صحة هذه الادعاءات؟ = هذا سؤال استفزازي لأنك تعرف الإجابة عنه. هناك قضية بالغة الأهمية عند الحديث عن تكوين الدول عبر التاريخ. الدول تتكون عبر عمليات تاريخية متواصلة، بعضها مرتبط بالحروب والبعض الاخر بالاتجاهات الوحدوية، وكثير من الدول العريقة كانت في البداية أكثر من كيان، فمصر مثلا كانت جزئين، ومناطق كثيرة في فرنسا لم تكن من أراضي الجمهورية الفرنسية حاليا، بل إن أمريكا اشترت مقاطعات كثيرة لتجعل منها الولاياتالمتحدة الأمريكية، وألمانيا وحده بيسمارك كما وحّد غاريبالدي إيطاليا. وكتب التاريخ تعود بالجزائر إلى مملكة نوميديا وموريطانيا الشرقية، وتذكر بنضال يوغورطة الذي ولد في قسنطينة، التي كانت تسمى سرتا، في العام 160 قبل الميلاد، وتذكر أيضا بمواقف رائد المسيحية الحقيقية في الشمال الإفريقي وهو الأب دونا، الذي اعتقله الرومان ومات في سجونهم عام 355 بعد الميلاد، وأفسحوا المجال لمسيحية كاثوليكية مستوردة كان رائدها رومانيّ مولودٌ في الجزائر، هو من يسمى أوغستان، والذي جعلوه قديسا. ولن أتحدث عن تاكفاريناس العظيم ولا عن الأديب أبوليوس ابن سوق أهراس (مادور أو مداوروش) ولن أذكر بأن أول مسجد بني في إفريقيا بعد القيروان هو مسجد أبو المهاجر دينار في ميلة، وبأن أول دولة أنشأت بعد الفتح الإسلامي كانت الدولة الرستمية في تيارت (تيهرت) وبأن ملك الإمبراطورية المقدسة شارلكان تلقى هزيمة رهيبة في خليج الجزائر عام 1541. ولن أتوقف عند حرب 300 سنة مع إسبانيا، ولا عن المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي منذ أيامه الأولى على يد أحمد باي والأمير عبد القادر، ولا عن الثورة التي يعتبرها المؤرخون واحدة من أعظم ثورات العالم، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق، كل هذا موجود في كتب التاريخ وفي ملفات الأنترنت، لكن المؤسف أن هناك من كلت أبصارهم وعميت بصائرهم. وهكذا فإن الأشقاء في المغرب هم ضحية الدعايات التي يروجها المخزن، ويعتمد عليها لضمان الوحدة الوطنية حول العرش، والشعب مغلوب على أمره، والجزائر أخطأت عندما رفضت في السبعينيات التعامل مع المعارضة المغربية احتراما للسيادة المغربية، برغم أن الجيش المغربي قام بغزو مسلح للجزائر في أكتوبر 1963، وأخطأت عندما لم تفهم أن النظام الملكي المستبد لا يمكن أن يقبل أي استفتاء شعبي، وهو لا يغير مواقفه إلا رغم أنفه، كما حدث عندما تراجع عن رفض استقلال موريطانيا، التي كان يدّعي تبعيتها له. ولقد بذلت الجزائر كل جهد للحفاظ على وشائج الأخوة وعلاقات الصداقة، وقال بومدين بشكل واضح بأن استقرار المغرب هو استقرار للجزائر، ووقف إلى جانب الملك الحسن الثاني عند انقلاب الصخيرات في يوليو 1971، لكن بعض الأشقاء لا يرعون العهود، وهم يتنكرون اليوم لمعاهدة الحدود التي وقعناها معهم في جوان 1972، بحضور أكثر من أربعين رئيس دولة وحكومة. وبالطبع فإن هناك محاولات إجرامية للتأثير على الجزائر، من بينها قيام مجموعات إرهابية، وأقول إرهابية، بتهريب المخدرات إلى الجزائر، وسأكون بالغ الأسى إذا تأكد أن هناك مسؤولين سياسيين وراء هذه العمليات الحقيرة التي تستهدف شباب الجزائر. * هل اقترب موعد انفراج القضية الصحراوية في تقديرك؟ = لا يضيع حق وراءه طالب. * تمر الأمتان الإسلامية والعربية بواحد من أسوأ عصورها وأكثرها سوادا. أين مكمن الداء في تشخيصكم؟ وهل من دواء لذلك؟ = فرق كبير بين ما تعانيه الأمة العربية وما تعيشه الأمة الإسلامية، لأن هذه فهمت وأدركت ما لم تفهمه تلك، وانظر إلى تركيا، التي تحولت في سنوات قليلة إلى قطب سياسي واقتصادي متميز، وانظر إلى إيران التي يسعى العالم المتقدم لكسب ودها، وإلى ماليزيا بل وإلى باكستان التي أصبحت دولة نووية. ومكمن الداء في نظري هو أن الأمة العربية لم تفهم بأن الوطنية الحقيقية هي تكامل العمق القومي مع الانتماء الديني، وهكذا حارب وطنيون الإسلاميين تحت رداء علمانية حمقاء، ظنت أن اللائكية معناها الإلحاد، وحارب إسلاميون القومية بدافع تدين ساذج لم يدرك أن الرسول عليه الصلاة والسلام عرّف العربية بأنها اللغة، أي الثقافة والحضارة والانتماء، وكانت النتيجة هي ما نراه اليوم، وبالتالي فإن العلاج لا يمكن إلا بحسن تشخيص الداء. * صنع التنظيم الدموي المسمى داعش الحدث في الأيام الأخيرة، وبات مبررا جاهزا للتدخل في شؤون بعض البلدان الشقيقة، وهناك من يجزم بأن هذا التنظيم المشبوه صنيعة أجهزة استخباراتية غربية. ما رأيكم؟ = داعش هي مولود غربي بامتياز، وهي كما تفضلت صنيعة أجهزة استخباراتية غربية، نجحت في استثمار وضعية الإحباط التي يعيشها الشباب المسلم أمام الهجمة الشرسة ضد الإسلام، وأكبر الأدلة على ذلك هو عدد الأوربيين المسلمين الذين يقال أنهم انضموا إلى هذا الداعش .. * يتعرض المسلمون في فرنسا والغرب لاعتداءات وجرائم منذ تنفيذ جريمة شارلي إيبدو التي تحيط بها الشبهات، وسبق لك أن قارنتها بأحداث 11 سبتمبر 2001 بأمريكا. هل خلعت فرنسا وأخواتها قناع التحضر و الحرية والإخاء والمساواة ؟ = كان رأيي دائما هو أن تفجيرات نيويورك كانت فبركة أمريكية، وقد شرحت هذا بالتفصيل في أكثر من لقاء صحفي، وأرى أن نفس هذا الاستنتاج ينطبق على مهزلة شارلي هبدو، وهو أيضا ما سبق أن شرحته بالتفصيل، وشعارات الحرية والإخاء والمساواة كانت وستظل دائما وسيلة دعائية للسيطرة على مقدراتنا. لكن الغرب لن يحترم مهاجرينا إذا لم نحترم نحن شعوبنا، ونلتزم بإرادتها، ونسهر على مصالحها، والناس هناك، كما أقول دائما، تخاف ما تحشمش، وبالطبع، حاشا إللي ما يستاهلش. * اتخذ النظام المصري جريمة قتل عدد من مواطنيه بليبيا ذريعة للتدخل العسكري فيها. هل هذا المبرر كاف للقيام بذلك؟ وإلى أين تتجه الأمور في ليبيا حسب رأيك؟ = لا يمكن أن يدافع إنسان سويّ عن ذبح مصريين أو غير مصريين في ليبيا أو غير ليبيا، وأنا أظن أن كل ما شاهدناه كان مسرحية استغلها النظام المصري لتدعيم أنصاره في ليبيا ومحاولة استنفار الدعم الدولي لأطماعه بحجة مكافحة الإرهاب، وأنت تعرف أن المنطقة الشرقية في ليبيا، حيث النفط، كانت محط أنظار الرئيس السادات، وهو ما أكده الأستاذ هيكل، وكنت تناولته بالتفصيل في كتابي: أربعة أيام صححت تاريخ العرب. ألم تلاحظ طول العمالقة الذين كانوا يسوقون لابسي البزات البرتقالية، وألم تلاحظ ما قيل حول العملية من أن الإرهابيين ارتكبوها في شواطئ طرابلس، ثم قيل أنها ارتكبت في سرت، في حين أن الهجوم الجوي المصري تم على منطقة درنة، أي على بعد أكثر من ألف كيلومتر عن العاصمة الليبية، وهل تتصور بأن كل الأقمار الاصطناعية التي تحلق فوق رؤوسنا كانت في عطلة مرضية أو أصيبت بسكتة إلكترونية فلم تسجل عملا إجراميا هائلا، لم يرتكب في نفق مغلق، وإنما بجانب الشاطئ وتحت سماء مشرقة. هل يمكن أن تتم عملية كهذه عدد من فيها يتجاوز أربعين شخصا بدون أن تكشفها الأقمار، ولا يشاهدها راعي إبل أو بدوي هائم على مقربة من الشاطئ. الكاتب المصري سليم عزوز يقول في القدس العربي يوم السبت الماضي: إعلان الحرب على ليبيا قرار وضع سلفاً، ولا علاقة له بمقتل واحد وعشرين من المصريين على يد داعش ، ففي سبتمبر الماضي، أعلن توفيق عكاشة، المقرب من عبد الفتاح السيسي، في مقابلة تلفزيونية مع عمْرو أديب (المعروف جدا عند الجزائريين) أن حرباً على ليبيا ستشنها مصر خلال ست شهور (...) والقوم في مصر كانوا في حالة غير طبيعية، جعلت من مذيع تليفيزيوني يقول بحماس إن من قتلتهم داعش نطقوا بالشهادتين قبل قتلهم، ونسى أن يقول إنهم صلوا الفجر حاضراً، ونسي أنهم مسيحيون! .. * ما رأيك في ما يحدث بمصر بعد إطاحة السيسي بمرسي بواسطة انقلاب قال أنه يستند إلى تفويض شعبي ؟ = قلت منذ نحو عام أن ما حدث في مصر هو ثورة مضادة بكل المقاييس، وأصدرت كتابا عن دار هومة بهذا المعني يؤكد ما ذهبت إليه، وما يؤسفني هو أن عندنا من يتصورون تماثلا بين الأوضاع هناك وعندنا، وهي مقارنة ساذجة، لأن قيادة الجيش الجزائري تعتمد نفس العقيدة القتالية التي اعتمدها جيش التحرير الوطني خلال مرحلة الثورة، وهي لا تخطئ في تحديد عدو الأمة، أما قيادة الجيش المصري اليوم فهي تعتمد عقيدة قتالية ولدت مع كامب دافيد وأنهت العقيدة التي أنجزت حرب أكتوبر المجيدة، والتي أجهض الرئيس أنور السادات نتائجها عندما وضع كل ثقته في هنري كيسنجر، ويكفي لتأكيد ذلك أن مصر غيّرت نشيدها الوطني الذي حاربت تحت لوائه وهو نشيد والله زمان يا سلاحي ، وذلك بناء على طلب إسرائيلي، وهذا كلام هيكل وليس كلامي. وكلمة التفويض أصبحت أغنية مفضلة لدى الرئيس المصري، فهاهو اليوم يطلب تفويضا من الأممالمتحدة لدعم خليفة حفتر في ليبيا، وكان مؤسفا أن رفضته المنظمة الأممية، ولسبب بسيط، هو أن مصر أكبر من بعض من يتحدثون باسمها ويتسببون لها في مثل هذه الصفعات في المحافل الدولية، وهي التي كان اسمها مرادفا للشموخ السياسي والعزة القومية. * يعتبر البعض أن الربيع العربي كان مجرد مؤامرة غربية لإغراق أمتنا في الفوضى بدليل ما يحصل في بلدان الربيع العربي ، لكن يبدو أن لك رأيا مخالفا؟ = بعض النظم التي كانت تخشى من انتفاضات شعبية هي التي روّجت لأكذوبة المؤامرة الغربية، فمن الذي يصدق أن بوعزيزي كان عميلا للمخابرات الأمريكية. وما حدث هو أن شعوبا كانت تختزن شحنات من الكراهية ضد نظم حكم أذلتها وحطمت كبرياءها عبر عقود وعقود، وهكذا كانت الأرض مشبعة بالسوائل القابلة للاشتعال، والتي أوقد لهيبها عود ثقاب اشتعل في سيدي بوزيد التونسية، وانتقلت العدوى إلى دول أخرى، لكن نقص الخبرة والتجربة عند الثوار جعلتهم يحسنون الظن أكثر من اللازم بالدعم الشعبي لتحركاتهم، ويعطونه أكبر من فعاليته الحقيقية، وتجاهلوا القوة الهائلة التي اكتسبها رجال النظام القديم منذ سنوات طويلة، وقوة التحالفات بين الأمن السياسي والطبقة الرأسمالية الطفيلية ورجال الأحزاب الصورية، وتواطؤ هؤلاء مع الغرب، الحريص على حماية موارده النفطية وقاعدته المتقدمة، أي إسرائيل، وما حدث في مصر هو أوضح مثال لنكسة الثورة، وما يحدث ي ليبيا ليس بعيدا عن ذلك. * كيف تقيّمون تجربة الإسلاميين في حكم بعض البلدان العربية، وغيرها، مثل مصر وتونس وتركيا؟ وما رأيكم في اعتبار الإخوان تنظيما إرهابيا في مصر؟ = هناك فرق كبير بين تجربة الإسلاميين في الدول العربية وتجربتهم في الدول غير العربية، ولقد أشرت إلى ذلك في إجابة سابقة. ولعلي أقول بأن تجربة الإسلاميين في تونس هي تجربة رائدة، لأنها فهمت معطيات المجتمع المعاصر، وتخلت عن الحماقات التي ميزت تجارب أخرى، كانت لها ارتدادات مؤسفة، بل ومأساوية. * لم تعد القضية الفلسطينية في مقدمة أولويات واهتمامات العرب والمسلمين في ظل أوضاعهم الحالية، وأصبحت هذه القضية المركزية تُختصر أحيانا في غزة . هل يعني ذلك أن ساعة خلاص الشعب الفلسطيني تبدو بعيدة؟ = كانت القضية الفلسطينية بالنسبة لمعظم النظم العربية عملية دعائية للحفاظ على السلطة ولتخدير الجماهير، وفي غياب رجال من أمثال جمال عبد الناصر وهواري بومدين وفيصل بن عبد العزيز تبدو ساعة التحرير بعيدة، إن لم أقل أنها لن تكون أبدا، لأن هناك بلدان عربية مستفيدة من الوضع الحالي، بدون أن أقول أن علاقاتها مع إسرائيل تجعلها على عداء دائم مع حركة التحرير الفلسطيني. * قلت في حوار صحفي سابق أنك كتبت كل خطابات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد خلال عهدته الأولى، باستثناء واحد شارك في كتابته الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. ألا يعني ذلك أنك كنت مشاركا بشكل مباشر في اتخاذ قرارات رئاسية مع ما يعنيه ذلك من مسؤولية تاريخية كبرى؟ = السؤال بهذا الأسلوب قد يوحي بأنني كنت أفرض آرائي على الرئيس، أو أستغل موقعي لترويج أفكاري الخاصة، وهذا غير صحيح، لأن مضمون الخطب والتصريحات الرئاسية كان مستمدا من مجموع التقارير التي تبين الوضعية السياسية والاقتصادية للبلاد، والتي كنت أتعرف عليها من لقاءات الرئيس مع السلطات المحلية، ومن الاتصالات المنتظمة بالوزراء والقيادات الحزبية وسفراء الجمهورية، بالإضافة إلى ملاحظات الرئيس نفسه وتعليقاته خلال اللقاءات التي كنت أشارك فيها. ومما لا شك فيه أن صياغة خطاب رئاسي هي مسؤولية كبرى، وآمل أن أكون قد وفيت بها وأنني كنت عند مستوى ثقة الرئيس. * هل كان بن جديد الخليفة المناسب لبومدين في تقديركم؟ = يجب أن ندرك أن الرئيس، أي رئيس، لا يولد متمتعا بكل مقومات الرئاسة، بل هو في حاجة إلى تمرين حقيقي على ممارسة المسؤولية. والرئيس الشاذلي لم يأت من فراغ، فهو مجاهد معروف، كان لسنوات طويلة قائدا لأهم ناحية عسكرية في البلاد، وكان محط ثقة الرئيس بومدين، ومرافقا له في تحركات كثيرة قبل استرجاع الاستقلال وبعده، وداخل البلاد وخارجها. من جهة أخرى، خلقت وفاة الرئيس بومدين فراغا هائلا لم يكن من الممكن على أي سياسي ملئه إلا بدعم مطلق من أهم قوة منظمة في البلاد، وهي الجيش الوطني الشعبي، ومن هنا كان لابد للرئيس الجديد أن يحظى بثقة الجيش وبولائه، وليس فقط بموافقته ودعمه. كانت البلاد في حاجة إلى من يعطي الشعور بأنه يستطيع فرض إرادته على كل القوى لضمان الاستقرار وتفادي الهزات ومواصلة العملية التنموية، وهو ما كان متوفرا آنذاك في الشاذلي بن جديد. * ألم يكن محمد صالح يحياوي هو أقرب الناس لخلافة بومدين، فهو الذي اختاره لقيادة الحزب الأول والوحيد في البلاد، أي المسؤول الأول للسلطة السياسية بعد بومدين؟ = يحياوي مجاهد كبير ووطني صادق وعروبي متميز ولكنه لم يكن قائدا للحزب، بل مكلفا بإعداد المؤتمر الذي كان مقررا أن ينعقد في نفس العام الذي توفي فيه بومدين، والذي كان يستعد لإجراء تحويرات كبرى في مسيرة البلاد، وهو ما سمعته منه شخصيا. وكان يحياوي من الذكاء بحيث لم يتقدم للترشح، لأنه كان يعرف أن موازين القوى لم تكن في صالحه، وهو ما أكده لي عندما سألته عن الأمر. * يقال أنك أول طبيب جزائري يكتب وصفة طبيبة باللغة العربية. هل هذا صحيح؟ = ليس بالضبط، كنت أكتب أسماء الأدوية بالحروف اللاتينية لأنها موجهة للصيدلي، لكنني كنت أكتب طريقة الاستعمال باللغة العربية لمن لا يعرفون غيرها. * إضافة إلى عملك مستشارا لرئيس الدولة، ووزيرا، اشتغلت في السلك الدبلوماسي، وقابلت عددا غير قليل من رؤساء وقادة الدول. من تعتبره أقوى زعيم قابلته ؟ وهل من لقاء لا يُنسى مع رئيس أو ملك أو أمير؟ = الحديث هنا قد يطول، وكثير الكلام يُنسي بعضه بعضا، وأنا أكتفي بالقول أن الرئيس الوحيد الذي أثر فيّ لقاؤه في مطار العاصمة كان الرئيس فيديل كاسترو، حيث وقف أمامي وقفة انتباه للحظات موجها لي التحية بالإسبانية وهو يحدق في عيني، بحيث خيل للرائي أنه كان صديقا لي، وهذا يتناقض تماما مع جيسكارد ديستان، الذي صافحني وهو ينظر بعيدا وكأنه يتابع ذبابة تتراقص أمامه. * هل يمكن القول أن السياسة قد سرقتك من الطب والفكر والأدب؟ = من الطب، هذا صحيح، لأن الطب زوج غيور لا تقبل شريكا، ولكن الفكر والأدب هو جزء من الممارسة السياسية، والسياسي الجيد هو مثقف أولا وقبل كل شيء. * كوزير أسبق. ما هي المواصفات التي تراها ضرورية في شخص من توكل إليه مسؤولية الاستوزار؟ = هي المواصفات التي يراها من يعهد له بمهمة الوزارة، وأي كلام غير هذا هو بلاغيات لغوية. * ما أفضل ذكرى لك مع الرئيس الراحل هواري بومدين؟ وما أسوأها؟ = ذكريات كثيرة، لكن أمرّها هو عندما تلقيت خبر وفاته، رحمه الله. * يعرف الجزائريون بعض الأمور العامة عن رئيسهم الراحل هواري بومدين، وتعرف أمورا إنسانية تخفى على كثيرين. ما هي أبرز المواقف الإنسانية التي بقيت في ذاكرتك من سنوات قربك من محمد بوخروبة ؟ = لم أكن قريبا من محمد بوخروبة، لكنني كنت قريبا من هواري بومدين، وهناك كتاب عن ذكرياتي معه، وهي ذكريات كثيرة لا يتسع لها المجال في نهاية هذا الحوار الطويل جدا. * هل كتب بومدين مذكراته؟ = بشكل كامل ومنتظم، لا أظن ذلك، لكنه كتب سطورا عندما كان في مصحة موسكو، أطلعني عليها الرئيس الشاذلي. * قمت قبل سنوات بأداء مناسك الحج. إلى أي مدى أثرت فيك رحلة أداء خامس أركان الإسلام؟ = كان التأثير سلبيا نظرا لما عشته هناك من فوضى سببها الحجاج أنفسهم، نتيجة ممارسات اتسمت بالجهل وبالتناقض مع أبسط متطلبات الإسلام الحقيقي، وهو ما كتبته في مقال مطول إثر عودتي، وطالبت بإعداد الحجاج لأداء الفريضة بنفس الأسلوب الذي تستعمله ماليزيا، وبتكليف شباب سلطة نظامية كالدرك بتأطير الحجاج، ليكون دور العلماء هو التوجيه فقط، لأنهم يفتقدون المقدرة على تنفيذ التعليمات المطلوبة للقيام بالفريضة على الشكل المطلوب. * هناك صورة نمطية لدى العامة تفيد بأن كبار المسؤولين في الجزائر بعيدون عن مظاهر التدين وأن بعضهم لا يُصلون إلا في الأعياد، ويتساءل البعض: لماذا لا يعيّن رئيس الجمهورية والوزراء مستشارين للشؤون الدينية حتى تكون قراراتهم غير مخالفة للشرع. ما رأيك؟ = صلاة أي مسؤول سامٍ في الأعياد هي جزء من مهمته الرسمية، لأنه يمثل شعبا متديّنا، وهذه هي خلفية المثل الشعبي عن صلاة القياد في الأعياد، أما أن المسؤولين عندنا بعيدون عن التدين فهو حُكم قيمة لا أشاطرك إياه، مع تقديري لاستعمالك كلمة العامة وليس الشعب ، وأحكام العامة فيها الكثير من السطحية والاندفاع. من جهة أخرى، وزير الشؤون الدينية هو المستشار الأول على مستوى رئاسة الجمهورية بفضل تكوينه ومجموعة العلماء الذين يجعلهم حوله، وهناك أيضا المجلس الإسلامي الأعلى الذي يمكن أن يوفر الاستشارات في مجالات معينة، وأنا لا أؤمن بدور المفتي الرسمي الذي تستعمله أنظمة الحكم العربية لتمرير سياساتها وتغليفها بغطاء ديني لخداع العامة، وما تابعناه خلال السنوات الماضية من فتاوى مسيسة بل وحمقاء أحيانا تؤكد هذا. ولا أعتقد أننا، كدولة مسلمة، اتخذنا عبر السنوات الماضية كلها، قرارات مناقضة للإسلام، حتى ولو كان هناك بعض التجاوز في وضعيات معينة، وأذكرك هنا أن العديد من النصوص الدينية بتحريم أمرٍ ما كانت تدريجية. وفي العصر الذي تطورت فيه أجهزة الاتصال ووسائله يمكن للمؤسسات المعنية إقامة نظام للفتاوي يعتمد الهاتف والشبكة العنكبوتية للإجابة على تساؤلات المواطنين فيما يتعلق بالعبادات وبالمعاملات. * هل مازال لديك الاستعداد لتولي مسؤوليات ومهام رسمية؟ وكيف ستردون في حال تلقي عرض رسمي لشغل وظيفة رسمية ما؟ = عاش من عرف قدر نفسه، وأدرك أن لكل مرحلة رجالها وأسلوب عملها، وبالتالي فأنا لا أعتقد أن في استطاعتي القيام بما تتطلبه المسؤولية والمهام الرسمية في هذه المرحلة. غير أني لا أتردد في أن أقول رأيي بصراحة في كل أمر يطرح عليّ، إذا كنت أملك كل معطياته. * أصدرت 13 مؤلفا بعضها في أكثر من جزء. أي كتبك أقرب إليك؟ وهل من مشروع كتاب جديد في الأفق؟ = الكتب مثل الأبناء، لكل منها معزته، لكن أقرب كتبي إلى نفسي هو كتابي عن الرئيس الشاذلي بن جديد، أنا وهو وهم، لأنني أرى أن هذا الرجل ظلم كثيرا، وبالتالي حاولت أن أقوم بواجب الشهادة المخلصة والنزيهة في حقه، احتراما للأمانة التاريخية وتبصيرا للشباب الذين لا يعرفون عنه الكثير. * هل أنت متفائل بمستقبل الجزائر؟ = أرجو الخير دائما لوطني ولأمتي. * ما هي كلمتك الأخيرة؟ = شكرا. ------------------------------------------------------ عميمور في سطور.. محيي الدين عميمور أديب وسياسي جزائري من مواليد القرن الماضي (كما يقول) ينتمي لأسرة مجاهدة من ولاية ميلة. قطع دراسته الطبية في القاهرة في 1957 والتحق بجيش التحرير الوطني. ختم دراسته الطبية بعد استرجاع الاستقلال، وعمل كمسؤول للخدمات الطبية في البحرية الوطنية، حيث أنشأ فيها أول محافظة سياسية. ثم عمل كمستشار إعلامي لكل من الرؤساء هواري بومدين ورابح بيطاط والشاذلي بن جديد (من 1971 إلى 1984) ثم عين سفيرا للجزائر في باكستان (1989-1992) ثم عضوا في مجلس الأمة في عهد الرئيس اليمين زروال عام 1998، ثم وزير الثقافة والاتصال في حكومة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة 2000-2001، ثم عاد لمجلس الأمة ليترأس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس عام 2002. اختير في الكويت ليكون شخصية العام الثقافية لعام 2001، منح جائزة الصحافة العربية في دبي عام 2010، ومنح جائزة الإيسيسكو الثقافية في الرباط 2012. له العديد من الكتب التي تتناول قضايا سياسية وفكرية وذكريات مع الرؤساء، ويضم رصيده الصحفي مئات المقالات والحوارات في الصحف الوطنية والدولية. كان ضيفا في العديد من الحوارات المتلفزة في الجزائر وخارجها.