بقلم: عبد القادر حمداوي* يستعصي على المؤرخ الإحاطة بالتاريخ الذي عاشته الثورة الجزائرية بفعل العوامل والأحداث التي وقعت فيها بألوان مختلفة. وما نشب من خلافات واطراد تطورها، لقد عجز المؤرخ عن الإحاطة بحقائق التاريخ وأسرار الثورة، وما قبل ثورة أول نوفمبر ومراحلها لا يتجاوز قطرة من بحر. وقوله تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، إن الاستفادة من تجارب الرجال ومعلوماتهم وخبراتهم، فتجارب الإنسان ومعارفه ملك لبنيه كافة فلا ينبغي احتكارها لقهر الشعوب والأمم. أهمية التاريخ ومكانته في إعداد الفرد والمجتمع والمحافظة على الشخصية الوطنية وسياستها ووحدة الشعب وإحالته ومثله العليا في الأخوة والالتحام والتكتل والانصهار في بوتقة واحدة للمجتمع. لقد عبث الاستعمار بالتاريخ، فبدل وغير وقدم وأخر وأثبت ومحا وقزم الأبطال وعملق الأقزام وألبس تاريخنا الجزائري ثوب تاريخه الفرنسي طمسا لمعالمه وإتلافا لواقعه، كما طمس مرحلة الفتح الإسلامي كلها من تاريخنا وإذا اضطر للتعرض إليها مرّ عليها مر اللئام ووصمها بمختلف النقائص والأوصاف المنحطة. لذا عمد إلى ربط تاريخ احتلاله للجزائر سنة 1830 مباشرة بالتاريخ الروماني وادعى أن أصل البربر من الرومان وأنهم ارتحلوا في غابر الأزمان من روما إلى شمال إفريقيا مشيا على الأقدام قبل أن تفصل مياه البحر الأبيض المتوسط جزيرة صقلية عن تونس وشبه الجزيرة الإيطالية، أما العهد الاستعماري فمزدهر ومتحضر كالعهد الروماني تماما، ولا أثر لوحشية الونداليين والصليبين والاستعماريين فيه. غسيل الأدمغة عمل العدو الفرنسي على استتباب هذه الأفكار المناهضة لإحالتنا في أمخاخ بعض المثقفين منا بلغته فصدقوها وآمنوا بها عن غير وعي وإدراك لمخاطرها القريبة والبعيدة، ولا يزالون يعانون من عقدتها التي أثرت في اتزانهم وازدادوا تعقيدا لرفض الشعب لها ولهم. وبالرغم من مرور خمسين سنة على تحررنا منه فإن تنظيماتنا السياسية ومنظومتنا التربوية لقد عجزوا عن استئصال هذا الداء نهائيا من أدمغة هؤلاء الأفراد الموزعين على جهات الوطن. فالمرض عام وليس خاصا بجهة معينة مما يستوجب المزيد من الحزم واليقظة والتوعية ومحاربة قيم البغضاء والتسلط والتصلب والجمود، والكراهية القلق، الخجل مركب نقص فقدان القدرة على التكيف. إننا نريد أن نبتعد عما نشاهده في مجتمعنا في هذه الظروف القاسية من نقائص وعيوب تنذرنا بخطر داهم وما اعترى هياكله من مرض ووهن رغم شبابه كالانحرافات والاختلافات والتجاوزات والزعامات الفارغة، والميل إلى العنف بجميع أنواعه وعدم احترام الدولة والقانون والمتاهات التي أصبحنا نتخبط فيها خبط عشواء في ليلة ظلماء كما يقال، وبقيت لعبة من اللعب في يد أعدائنا نأتمر بأوامره ونقف عند نواهيهم ونؤذي بعضنا بعضا بعد أن ملوا هم أو عجزوا عن إيذائنا ولا يمكنننا إن نتخلص من هذه الآفات المدمرة لنا إلا إذا استلهمنا العبر من تاريخنا واستخلصنا من هذا الركام حقائقنا الثابتة التي لا تلبي أمام المحن والشدائد والتي لا تزيد إلا صلابة بإذن الله. جهود لقد اهتمت الدولة بإعداد وتدريب الطلبة ورفع كفاءتهم وخلق مجتمع قوي قادر على مواكبة العصر بالجامعات المتعددة في كل ولاية، كيف نضعه على الطريق السوي وذلك يملأ الفراغ الواضح، فإعداد المكتبات وجودة طباعة الكتب وإخراجها الفني والحرص الدائم للمشرفين عليها وتدريب الطلبة على المطالعة لبناء جيل واع، فرسالة التعليم سامية الغاية نبيلة القصد، ولهذا تحتاج تأهيلا دقيقا وخبرة وتجربة عالية، فالعاملون والمديرون والموجهون والمؤهلون كل هؤلاء في موقعه إلى جانب الوسائل الأساسية كالكتاب والمناهج ووسائل الإيضاح المتبعة مع تضافر جهود الجميع، ولا تؤتى الثمار الكاملة إلا بعوامل لا تنقل أهمية لما ذكرناه. فالآلة لا تعمل ولا تتحرك دون وقود، ولا تعمل ولا تتحرك إذا أصيب أحد أعضائها بعطب فالعامل والمهندس كطاقة بشرية لن تثمر جهوده بثمار وافرة يانعة ناضجة كل النضج ومفيدة كل الفائدة إلا إذا توافرت له من داخله محركات معنوية هامة، كالإيمان برسالته والمعرفة بمادته التي يتقنها ويقوم ويكون في صحة نفسية وخلقية ويتزود بالتقوى، وأن يتقن العمل ويخلص النية إذا أراد أجرا حلالا في الدنيا وثوابا على إخلاصه هذا في الآخرة، ولن يجد الجزاء إلا من خالقه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا. إن الهدف من هذا هو خلق الفرد الواعي البصير بحقائق دينه المدرك لأحكامه وقيمه ليكون مؤمنا قويا قادرا على مواجهة التحديات التي تعترضه في مجتمعه مع تنظيم محاضرات وندوات ولقاءات ونشاطات وكل هذه مجالات معروفة الفوائد لتنمية العقل والذوق على هدى من قيم وطنية ودينية ، ونرجو أن يراعي هذا النشاط داخل المكتبات لمزيد من العلم والخبرة. ويكون ذلك بعد الدراسة في الجامعة والحصول على الإجازة التي تؤهله إلى المجتمع لينصهر فيه مسلحا بسلاح العلم والأخلاق والمعرفة لذوي الأصفياء والأتقياء الذين صفت نفوسهم، وينبغي أن تكون المدرسة والمسجد والمكتبة مفتوحة للأنشطة في تبسيط العمل وضوابطه. ونفتح قلوبنا وعقولنا لأبنائنا في حرية ممنهجة للخروج من السلبيات وفي حضن الأمن والأمان. كما أن الطلاب في حاجة ماسة إلى القدوة والمثل في معاملتهم مع آبائهم وإخوانهم فلا يتركونهم بلا رعاية أو عناية. لن يغفر لنا التاريخ ما جرى ويجري في بلادنا من حوادث مؤلمة، وخاصة تلك الهفوات السياسية في الفداحة التي نشأت والتي استغلتها العناصر المتآمرة مع المتآمرين والعبث والإهمال في هياكل مختلفة. وحين يتحقق الوعي والفهم التاريخي وتتوفر فيه الشروط الأساسية للنظر والفهم، والتعامل مع الوقائع والأحداث تتيسر هذه العمليات ونكون قد أسهمنا في إعداد مؤرخين بدرجة عالية ونهتم به حق الاهتمام. لذا بات من الضروري إلزام كل فرد في مجتمعنا بالوعي فلا يساوم في قيمنا وحضارتنا العربية الإسلامية ليكون مجتمعنا متكاملا ومتآزرا بمثابة الأركان التي يقوم عليها المجتمع ويستقر أمره. ونأخذ العبرة من الماضي وننطلق إلى المستقبل ونكون مؤهلين لأداء مهمتنا وبإسهاماتنا الإيجابية والارتقاء لحياة أفضل.