بين الله تعالى في هذه الآية المباركة أن المتعصبين من أهل الكتاب يتفقون في لقاءاتهم الخاصة على إظهار أن الحق مرتبط بهم هم، وأن المسلمين مهما ظهر عندهم من خير فلا ينبغي.. بين الله تعالى في هذه الآية المباركة أن المتعصبين من أهل الكتاب يتفقون في لقاءاتهم الخاصة على إظهار أن الحق مرتبط بهم هم، وأن المسلمين مهما ظهر عندهم من خير فلا ينبغي إثباته ولا التسليم به، ولا تصديقهم عليه، فيقول بعضهم لبعض في لقاءاتهم السرية: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73]، والتعبير ب (الإيمان) مع تعدية الجملة ب (اللام) يحمل في طياته جملة من الأسرار الإعجازية، التي تفضح طريقة التفكير والتدبير عند هؤلاء المجرمين على النحو الآتي: المرحلة الأولى: المعنى العام: أنهم يقولون لبعضهم: لا توقنوا ولا تثقوا إلا لمن تبع دينكم، وأتى هنا بكلمة (آمن) بمعنى أيقن؛ ليدل على شدة تكتمهم عن غيرهم عند الكلام عن عقائدهم وتصوراتهم. المرحلة الثانية: نفهمها في كلام هذه القيادات الماكرة من تعدية لفظهم باللام بدلاً من الباء {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} ليضاف إلى معنى التوثيق معنى الاطمئنان، كأنهم قالوا: لا توقنوا ولا تثقوا إلا بمن تبع دينكم، ولا تطمئنوا إلا لهم، فثقتهم بمن تبع دينهم وصلت حد اليقين بأنهم حتى ولو عرفوا أنهم على الباطل لما عارضوهم ولا فضحوهم، بل تعصبوا لهم، وهذا أورثهم الاطمئنان. المرحلة الثالثة: قالوا: {لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} ولم يقولوا: لأبناء دينكم؛ وهذا يدل على أنهم لا يثقون حتى في أبناء دينهم ممن يكونون محايدين، بل هم يريدون من تبع دينهم الخرافي المحرف، وقد يكون واضحاً أنه يخالف دينهم الأصلي. المرحلة الرابعة: وبعد الاطمئنان جاءت مرحلة لاحقة هي الاعتقاد والتصديق، أي: لا تصدقوا إلا بمن تبع دينكم، فازدادت الثقة بينهم، حتى وصلت حد الإيمان والاعتقاد، فصار يؤيد بعضهم بعضاً تأييداً أعمى مع رؤيتهم لبعض الأفعال الواضحة الخطأ التي تصدر عنهم، ولكنهم لأنهم يصدقون ويعتقدون ببعضهم، فلا يهمهم ما يرونه من إجرام واضح، وفعلٍ فاضح. المرحلة الخامسة: بعد التصديق والاعتقاد جاءت مرحلة ثالثة هي الإقرار، وهي من معاني الإيمان، فيكون المعنى: لا تقروا لأحد بحيلتكم ومكركم مع زعمكم أنكم على حق إلا لمن تبع دينكم -مع أن المكر والخداع ينافي الحق-. المرحلة السادسة: الجملة تحمل معنى آخر يضاف إلى ما سبق: وهو أنهم بعد أن يتفقوا على ألا يصدقوا إلا من تبع دينهم من أصحابهم، فكذلك لا يظهرون التصديق إلا للمخدوعين من المسلمين الذين يتابعونهم. فهذه الجملة المعجزة تضمنت ذلك كله بسبب تعدية (آمن) باللام، فإن معنى آمن له: صدقه وسلم له ما يقول، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وقال حكاية عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، فالإِيمان لا يتعدى باللام إلا إذا أريد بالتصديق الثقةَ والركون، كقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61] أي: فيكون تصدِيقا خاصاً تضمن معنى زائداً. وذَلك أن اليهود حصروا الثقةَ بأنفسهم لزعمهم أن النبوةَ لا تكون إِلا فيهم، بل غلوا في التعَصب والغرور، حتى حقروا جميع الناس، فَجعلوا كل ما يكون من أنفسهم حسناً، وما يكون من غيرهم قَبيحاً، فهم يتحاورون مع المسلمين، ويوهمونهم صدقهم في التعامل، وحرصهم على التعايش، ويسرون التآمر المجرم فيما بينهم، ويتواصون بعدم الثقة بأي فرد من المسلمين مهما بلغ قربه منهم إلا أن يتبع دينهم، وهذا يزيد في إرباك الصف المسلم؛ إذ إن بعض المسلمين يحرص على التواصل الظاهر أو الخفي مع هذه الفئة الماكرة، فتلين قلوبهم لهم مع الأيام، ويعتقدون صدقهم وطيبتهم، فيحدث التخلخل في التفكير، والاختراق في التصرف والتدبير، حتى يصل الأمر إلى التعادي بين أفراد المسلمين بسبب هذا المكر. الرد على هذه الجرائم الرد الأول: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} لا هدى فئة أو جهة أو حزب أو شعب. وجه الرد عليهم بهذه الجملة: أنهم يقولون: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}، فمن أين أتوا بأن هذا دين؟ أهو من عند أنفسهم أم من عند الله؟ قطعاً يقولون من عند الله، إذن ينبغي أن يذكروا أن الله الذي أمرهم بدين موسى ودين عيسى عليهما السلام هو الذي يضع الهدى وليسوا هم، فهو أمر أن يتبعوا موسى، فآمن به كثير وعارضه كثيرٌ أيضاً، ثم أمر أن يتبعوا عيسى فآمن به قليل من الكثير، وكذلك أمر أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فوجب أَنْي يتبعوه؛ لأنه أتى بهدى من عند الله، فكيف يقولون: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}؟ لأن الدين إنما صار ديناً بحكم الله وهدايته لا بوضعهم، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته، ونظيره قَوله تعالى جواباً لهم عن قَولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [الْبَقَرَةِ:142] يعني الجهات كلها للّه، فله أن يحول القبلةَ إلى أي جهة شاء. الرد الثاني: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} والمعنى: أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أهل الكتاب، حسدتم وعاندتم، ثم أفضى بكم الأمر إلى البغي وتدبير الحيل المجرمة المخادعة حباً في إضلال المسلمين، وهذا المعنى على قراءة ابن كثير بهمزتين في (أأن يؤتى) فيكون المعنى: رد عليهم على هيئة سؤال إنكاري، ويصلح المعنى على قراءة الجمهور أيضاً، فالأصل السؤال ولكنه حذف الهمز. الرد الثالث: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} أي: الهدى هدى الله، فما المانع أن يؤتي غيركم الهدى، كما آتاكموه من قبل. الرد الرابع: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي: تصرون على الباطل وتحتالون على إيقاع المسلمين في الضلالة؛ لئلا يحاجكم المسلمون عند ربكم إن ثبتوا هم على الحق وأصررتم أنتم على الباطل مع معرفتكم به وكتمانكم له، لذلك أردتم إزالة محاجتهم بأن تودوا لهم الضلالة وتردوهم عن دينهم، وقد يحتمل أن يكون المعنى: لماذا تصرون على إيقاع المسلمين في الضلالة وأنتم تزعمون الإيمان: ألا تخافون أن يحاجوكم عند ربكم؟ الرد الخامس: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:73]: أي أنتم تزعمون أنكم مؤمنون بموسى أو به وبعيسى عليهما السلام، فالله الذي أرسلهما، وهو الذي يرسل غيرهما، فلماذا تحاولون أن تتحكموا بما حكمه إلى الله؟ والمراد بالْفضل الرسالَة، والفضل الزيادة؛ لأن النبوة أمر زائد على وصول الهداية للإنسان فالأساس وصول الهداية فقد يزيد الله بعض عباده بأن يختصهم بالرسالة أي بأن يهتدوا ويكونوا أداة لإيصال الهدى، والمراد أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق، فليس لكون أتباع موسى أو أتباع عيسى أتباعاً لهذين النبيين يقتضي الأمر أن يكون منهم آخر الأنبياء بل يختار الله لذلك من فضله هو سبحانه. ولذا قال بعدها: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فكونه واسعاً يدل على كمال القدرة وعظمة الفضل، وكونه عليما على كمال العلم، ولذا يسع فضله أن يشمل غير أهل الكتاب بإعطاء النبوة، وعلمه يقتضي ذلك بما يدل على كمال الحكمة، والإصرار على أن يكون الأنبياء منهم فقط تحكم في قدرة الله وملكه وهذا ينافي الإلهية. الرد السادس:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران:74] أي كما أن الفضل بيد الله فكذلك الرحمة يقسمها على من يشاء لأنه الملك جل في علاه، والفرق بين الفضل والرحمة: أن الفضل هو الزيادة من جنس المزيد فبين بقوله: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} أنه قادر على أن يؤتِي بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب الْعالِية ويزيد عليها من جنسها، ثم قال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} والرحمة المضافة إلى اللَّه سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلَى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم، ويحصل من مجموع الآيتين أنه لا نهايةَ لمراتب إعزاز اللَّه وإكرامه لعباده، وأن قَصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة، وعلى أشخاص معينِين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة. الرد السابع: الاستشهاد عليهم بالأمناء منهم كما في الآية التالية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75]. توجيه في التعامل معهم بيان مكرهم وجرائمهم لا يعني عدم وجود طائفة منهم ذات أمانة وصدق، ووجود الطائفة الأمينة لا يعني عدم الانتباه إلى جرائم الطائفة الماكرة المجرمة، بل هي الأصل الذي يقودهم ولذا وسط الله ذكر الطائفة الأمينة ثم أعاد ذكر جرائم المحرفين.