* عبد العزيز كحيل ليس هو الإسلام الّذي جاء به محمّد _ صلّى الله عليه وسلّم _ الدين النابض بروح الحركة والحيويّة، يصنع الحياة ويبني الحضارة ويجمع في تناغم بديع بين متطلّبات الدنيا والآخرة، في ظلّه خرج العرب من البداوة إلى المدنيّة ومن رعي الغنم إلى قيادة الأمم، وبإيعاز منه امتلك المسلمون ناصية العلوم التجريبيّة وأبدعوا في العمران ونسجوا روابط إنسانيّة وعلاقات اجتماعيّة في غاية الرّوعة، ازدهرت برعايته مختلف الفنون الّتي تنمّي الحياة وترفعها وتباركها، صنع المسلمون الحياة بتوجيه من قرآنهم الّذي يقول: _ (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياةً طيّبةً) - سورة النحل 97 _ (يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) - سورة الأنفال 24 _ (قل من حرّم زينة الله الّتي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق، قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصة يوم القيامة) - سورة الأعراف 32 ( طه.. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) فالقرآن يجلب السّعادة وينفي الشقاء، لكنّ هناك إسلاماً ضدّ الحياة، ضدّ الجمال، ضدّ الطيبات، ضدّ السعادة وضدّ الفطرة، هو تلك القراءة الحرفية لأحكام الإسلام ونصوصه قراءة متّسمة بالتشنّج والتزمّت، ترى أن الأصل في الأشياء الحرمة، وفي الأفعال الحظر، وفي الذمم الاتّهام بل الإدانة، وسّعت منطقة المحرّمات فطالت كل جديد في عالم الأفكار والمخترعات والوسائل، حتّى القديم لم ينج منه إلاّ (ما كان عليه السلف الصالح)، وهذه عبارة فضفاضة غير محكمة تفتح الباب لكلّ المواقف والتأويلات. * مدرسة غريبة: يجب أن نتذكّر أن هذه القراءة الجامدة لدين الله لم تخدمه أبداً وإنّما كثّرت من خصومه، فبسببها أفتى (الشيوخ) بخلع السلطان العثماني الّذي فكّر في شق السكّة الحديديّة واستعمال الطوابع البريديّة، لأنّ ذلك (تشبّه بالكفار) وإدخال لعاداتهم السيّئة إلى بلاد الإسلام ! وليست المسألة تاريخيّة، فمازال شيوخ هذه المدرسة يقابلون أيّ جديد بالتحريم، فعلوا هذا مع التلفزيون في عهده الأوّل ثم مع الأنترنت ورنّات الهاتف المحمول فضلاً عن السينما والمسرح وحتّى الأناشيد الإسلاميّة، لأنّ كلّ هذا من البدع المحدثة الّتي لم يفعلها الرّسول _ صلّى الله عليه وسلّم _ ولا القرون الأولى!!! هذا التوسّع الكبير في معنى البدعة ألقى بظلال الريبة والتوجّس على كلّ جديد في حياة الناس فأدّى إمّا إلى الجمود والتحجّر أو الانفلات من أحكام الشريعة. طغى رفض الوافد الثقافيّ مخافة التشبّه بالكفّار، ولم يخضع الأمر لمعايير شرعيّة واضحة فدخل قفصَ الاتّهام كلُّ نمط معيشي مغاير للأعراف المحليّة ولو كان محايداً كلباس الرّجل والأنشطة الجماهيريّة وأساليب العيش والبناء. باسم التميّز قضي على المسلمين أن يتقولبوا في عادات عربيّة خاضعة لظروف الزّمان والمكان عندما تمّ تحويلها إلى تعاليم دينيّة صارمة منغلقة هي بمثابة حواجز نفسيّة تمنع من التواصل مع الآخرين ومن الاستفادة من التسهيلات الحياتيّة ماديّاً ومعنويّاً، رغم أنّها تقاليد لم يأت بها كتاب ولا سنّة. * الثالوث المحرّم: العقل.. المرأة.. الآخرون عندما شكّلوا بالتأويل إسلاماً رافضاً للحياة اعتمدوا أساساً على ثلاثيّة تشمل العقل والمرأة والآخرين. 1 . العقل: حوّلوه من نعمة كبرى تمكّن المسلمين من فهم الوحي وتتيح لهم ولغيرهم تسخير الكون وتشييد العمران إلى عدوّ لدود يتربّص بالدين ويحطّم أركانه ويضلّ أتباعه، لذلك عادوا العقلانية واعتبروها نقيضا للتقوى وأنتجوا معادلة في غاية الخطأ والخطورة تتمثّل في المقابلة بين العقل والوحي باعتبارهما نقيضين، رغم أن نقيض العقل ليس الوحي ولكن الجنون. واعتمادا على تجربة عقلانية تاريخية معيّنة، لهم _ ولنا أيضا _ عليها مؤاخذات أصدروا حكما نهائيا على العقل والعقلانية وكلّ صاحب فكر حرّ بالزندقة، فانكفأ كثير من المسلمين على الموروث الثقافي وعطّلوا عقولهم ومنعوها من التفكير والإبداع، أو انتقلوا إلى الضفّة الأخرى فألّهوا العقل ورفضوا الدين. 2 . المرأة: يرفعون لافتة (الإسلام أنصف المرأة وكرّمها) لكن اللافتة لا تحلّ المشكلة، والمشكلة ليست مع الإسلام ولكن مع أصحاب الفقه البدوي الذين لم ينصفوا المرأة ولم يكرّموها، وإنما يضيّقون عليها ويتعسّفون في حقّها _ باسم الإسلام _ بليّ أعناق النصوص الدينية وتناولها بقراءة متشنّجة خلاصتها أن المرأة شرّ يجب اتقاؤه بكلّ الوسائل، وشرعوا غرائب من السلوك ما نطق بها كتاب ولا سنّة ولا أجمع عليها علماء الأمة بل أفتى هؤلاء بضدّها. إن الرافضين للحياة يتّهمون المرأة وبالتالي أباها وأخاها وزوجها في صوتها ووجهها وخلوتها وجلوتها وحركتها وسكونها لأنها مظنّة الفتنة والانحراف والسوء ورمز للشر، فعملوا على عزلها تماما عن الحياة، مرّة باختيار أشد ّالآراء الفقهية تطرّفا في أمر اللباس، واعتبار ذلك واجبا دينيا لا اجتهاد معه، ومرّة أخرى بتبنّي الفصل الصارم بينها وبين الرجل لأنّ أي تواجد بينهما يفضي بالضرورة إلى المعصية، وبدل أن تعتني المرأة المسلمة بتنمية ذاتها ونصر دينها وخدمة مجتمعها بقيت مشدودة إلى تبرئة نفسها من الاتهام الأزلي، أو الارتماء في أحضان العلمانية. 3 . الآخرون: يتبنّى هؤلاء مقولة: (الآخر هو الجحيم)، ويريدون اختزال العلاقات بين الناس في معادلة الإيمان والكفر أي من ليس معي فهو بالضرورة ضدّي، ولا يتعلّق الأمر بالعلاقات مع غير المسلمين فحسب وإنّما يشمل كلّ مسلم لا يؤمن بطرحهم، ولذلك يعاملونهم بمصطلحات الضلال والابتداع والفسق والزندقة، فلم ينج من الاتهام عالم ولا داعية ولا مصلح ولا جماعة ولا حزب إذا كان على غير رؤيتهم، فقد طال تضليلهم أمثال محمد عبده والأفغاني وحسن البنا والمودودي والقرضاوي وجماعة الإخوان والدعوة والتبليغ والصوفية والأحزاب الإسلامية على اختلافها، هذا فضلاً عن القوميين والوطنيّين ولو كانوا يصلّون ويصومون ويعتزّون بإسلامهم، بل تعدّى إلى رموزهم إذا مالوا إلى الاعتدال في أمر من الأمور، فينتقلون فجأة من علماء أفذاذ يعتبر قولهم حجّة قطعية إلى فسّاق في غاية الخطورة ! هكذا ضيّقوا واسعاً وتشدّدوا في مصطلح (الولاء والبراء) فتصرّفوا كأنّهم وحدهم الأوصياء على الإسلام، يرفضون الاختلاف رغم أنّه سنّة كونيّة وقانون اجتماعي أبدي، فكيف يدعو هذا الإسلام إلى الحياة وهو يتوجّس من القاصي والداني ويسيء الظن بالمخالف ويعادي من يرى رأياً مغايراً؟ * الموت ثم الموت علّمنا الإسلام أن نعيش في سبيل الله، نستمتع بالطيّبات ونرفع لواء الجمال ونشيع الخير، لكن أصحاب النظرة السوداويّة يتخندقون مع الموت بسبب وبغير سبب، فأهمّ موضوع يخطب فيه شيوخهم ويدرّسون ويحاضرون هو أشراط الساعة وقيامها وعذاب القبر وأهوال القيّامة، وهذه معلومات من صميم الدين بالتأكيد، لكن التّركيز عليها مع إغفال صناعة الحياة هو المصيبة لأنّه يحيل الناس إلى العجز والبطالة والقبوع في قاعة الانتظار بدل خوض غمار الحياة لتحقيق سعادة الدنيا ورجاء سعادة الآخرة. وقد أدّى هذا التركيز على الموت إلى تنشئة جيل من الشباب المتفنّن في نشر الموت تحت غطاء (إرضاء الله تعالى)، من هذه المدرسة وحدها تخرّج زارعو الموت في طول البلاد الإسلاميّة وعرضها ثمّ صدّروا بضاعتهم خارج الحدود فسقط على أيديهم أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع مع الإسلام والمسلمين، سواءً في الطائرات أو القطارات أو الأسواق الشعبيّة وحتّى المساجد... هكذا هي ثقافة الموت الّتي ينسبونها للإسلام، لكنّهم ضدّها في حالة واحدة: الجهاد والمقاومة والشهادة ضدّ المحتلّ إذا لم تأذن أمريكا بذلك!!! * معاني الحياة غائبة: الإسلام رسالة تحرير للإنسان والبشريّة انطلاقاً من عقيدة التوحيد الّتي تؤصّل لقيم الحريّة والحياة الكريمة، غير أن معاني هذه الحياة غائبة تماماً من قاموس وأدبيات هذا التيار الّذي استحوذ على الإسلام وأخرج منه نسخةً قاتمةً لا تقيم وزناً للحريّة والعدل والشورى والكرامة بل تدعو إلى الرضوخ للاستبداد والانسحاب من النشاط العام فتحرّم الإضراب والتظاهر والاعتصام وتشكيل الأحزاب وحتّى الجماعات الدعويّة باعتبار كلّ هذا من البدع الخطيرة الّتي يجب محاربتها، ويكفي أن هؤلاء يقيمون الدنيا إنكاراً وتشنيعاً على ما يسمّونه شرك القبور لكنّهم صامتون أمام شرك القصور، القصور التي تبدّد فيها أموال الأمّة وتباع قضاياها وتنتهك حرماتها، بينما يقتضي فقه الحياة أن يتواجد المسلمون في ساحات العمل الدعويّ السيّاسيّ والنقابيّ والعلمي والفنيّ ونحوها ليكون للحياة نكهة طيّبة بدل أن تكون _ كما يريدونها _ بغير لون ولا طعم ولا رائحة، بل كأنّهم يريدونها بلون أسود وطعم مرّ ورائحة كريهة، كأن بين التديّن والحياة عداوةً مستحكمةً. * الصورة من زاويّة أخرى إنّ أصحاب هذه الرؤية المضادة للحياة قلّة بين المسلمين لكن صوتهم عالٍ مرتفع لسببين: _ فمن جهة تشجّع بعض الأنظمة الحاكمة في البلاد العربيّة هذه النّزعة المغالية لتحجيم الوسطيّة الإسلاميّة الّتي تتبنّاها أغلبيّة المسلمين الساحقة وجماعاتهم وأحزابهم، وتوفّر لها الدّعم الماليّ لنشر صورة مشوّهة عن الإسلام ترفضها الفطرة والعقل والدين نفسه. _ ومن جهة أخرى يركّز الإعلام المحليّ والعالميّ على هذه المدرسة المتزمّتة ويتجاهل أصحاب الطرح الإسلامي المعتدل المتحضّر حتّى تتواصل العداوة للإسلام ويستمرّ الصراع ولا يعطى مجال للحركة الإسلاميّة لتجسّد طروحاتها وترفع اللبس وتردّ على الشبهات وتنسج العلاقات الطبيعيّة مع مواطنيها ومع الغربيّين والناس جميعا، وتبيّن أن الإسلام مع الحياة (مزرعة للآخرة)، وليس ضدّها.