بقلم: محمد خالد الأزعر* نحن الآن في أوائل أيام العام المئة على صدور وعد بلفور المنكود في الثاني من نوفمبر عام 1917. ومن باب استحضار بعض حيثيات هذا الحدث الفارق بقوة في مسار الصراع الصهيوني العربي نشير إلى أن سرية المباحثات بشأنه وصعوبة انتقال الأخبار في تلك المرحلة قد حالتا دون معرفة الفلسطينيين والعرب بالوعد ونصه لأسبوع بكامله. وكانت صحيفة المقطم المصرية أول من ترجم هذا النص ونشره في المنطقة العربية يوم التاسع من نوفمبر 1917 نقلاً عن صحيفة جويش كرونكل البريطانية. على الرغم من سابق درايتهم بما يحاك لحقوقهم في الدوائر الغربية الاستعمارية إلا أن الفلسطينيين تلقوا نبأ الوعد بشيء كثير من الصدمة. كيف لا وقد تخطى اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى في رسالته إلى روتشيلد أحد أكابر زعماء اليهود وممولي الحركة الصهيونية كل حدود المعقول فتجاهل وجودهم وأبدى تعاطف حكومة جلالة ملك بريطانيا مع إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ووعد بتسهيل تحقيق هذه الغاية. عند صدور الوعد لم تكن فلسطين ضمن ممتلكات التاج البريطاني ولا كانت من أراضي الشعوب الواقعة تحت سيطرته لا بالاستعمار المباشر ولا بصيغة الانتداب التي ابتدعت لاحقاً. لقد استكمل ذلك التاج وجنوده احتلال فلسطين بعد مرور شهر وزيادة على مبادرة بلفور. ولذا قيل عن حق إن الوعد كان ممن لا يملك. ولأن عدد اليهود في البلاد التي وعدتهم بها بريطانيا لم يزد وقتذاك عن معدل ال 5 وكانت أغلبية سكانها الساحقة من المسلمين والمسيحيين فقد قيل عن حق أيضاً إنه صدر إلى من لا يستحق. عند صدور الوعد لم يكن اليهود مشردين ولا كانوا لاجئين معدمين يتكففون الناس ولذا لم يكن الهدف منه إنسانياً ولا خيرياً وإنما كان تعبيراً عن نوازع استعمارية مصلحية مادية بحتة. ولم تكتفِ الدولة البريطانية بإسداء الأمنيات النظرية وإنما ذكرت بلا مواربة أنها ستبذل جهدها لتحقيق الوطن القومي لليهود في فلسطين بالتحديد ضاربة عرض الحائط بتطلعات الفلسطينيين ورأيهم وبهذا ألحقت بهم أضراراً ما زالت مفاعيلها مستمرة إلى ساعتنا هذه بل وأضرت بمصالح الجماعات اليهودية التي كانت تؤثر ديمومة المواطنة في مجتمعاتها الأم. فور علمهم بالوعد عبر الفلسطينيون بما أتيح لهم من أدوات التعبير عن رفضهم له واحتجاجهم عليه. وحين عقد مؤتمر السلم العام في باريس عام 1919 رفعوا إليه مذكرة جاء فيها (نحن- المسلمين والمسيحيين- بصفتنا ممثلين لأمة عربية حية نرفض بتاتاً الوعد الذي ناله الصهيونيون بجعل بلادنا وطناً قومياً لهم وإنهم ينوون الهجرة إلى هذا البلد واستعماره..). على مدار الأعوام المنقضية من عمر هذا الوعد اللعين لم يتزحزح الفلسطينيون عن موقفهم تجاهه حتى ليصح الاعتقاد بأن استحضاره مقروناً بالسخط على السياسة البريطانية التي أملته يمثل أحد الثوابت الوطنية التي أورثها الأجداد والآباء للأبناء والأحفاد. وفي كل يوم من أيام هذه الحقبة الممتدة يتأكد أن الفلسطينيين كانوا علي حق. فالوعد بمقدماته وتوابعه وما ترتب عليه لم يضمن للصهاينة اليهود منهم وغير اليهود الأمن والاستقرار في الوطن القومي المزعوم. ولا يستطيع أحفاد بلفور الزعم بأن اليهود في تل أبيب أو القدس أو أي مكان في فلسطين هم أكثر اطمئناناً في حيواتهم من اليهود في نيويورك أو لندن أو باريس أو سواها من المدن على الصعيد العالمي. أكثر من ذلك مدعاة للسخرية من جرائر هذا الوعد أن الوطن القومي الذي تحدث عنه لا يضم حتى الآن سوى أقل من نصف يهود العالم. ولو كان في هذا المقام متسع لأفضنا حول حجم الكوارث التي ألحقها هذا الوطن القومي بفلسطين. اليوم يعمل الفلسطينيون بالفعل في نطاق الممكن وأضعف الإيمان وهو حصر هذه الكوارث والآلام لأجل مساءلة بريطانيا عنها قضائياً وإلزامها بما يقتضيه الحق والعدل من اعتذار وتعويض. ولأن استحقاقات الوعد وآثاره البغيضة قد استطرقت إلى الرحاب العربية فقد يكون لزاماً على هذه الرحاب أن تتضامن عضوياً مع المطلب الفلسطيني وتردفه بكل الوسائل الممكنة.