نفحات الشهر الفضيل البعد الاجتماعي لمدرسة الصيام إن شهر الصيام مدرسة عملية ينخرط في صفوفها المؤمنون ليتعلّموا من خلالها ما يؤهّلهم إلى المراتب العالية عند بارئهم ويتشرّبوا في أحضانها لذّة العبودية ويتذوّقوا في رحابها حلاوة القرب والمناجاة ويتفيئوا في ظلالها مقامات الاستعلاء الإيماني والترقّي الروحي ويثأرون فيها من عدوهم المتربص بهم في كل وقت وينتقمون منه شرّ انتقام مستثمرين تصفيده وتكبيله في هذا الشهر الكريم ويعملون بجدّ على تقوية رصيدهم وتكثيره من الأعمال الصالحة والقربات الفاضلة تجاوبا مع كرم الكريم عز وجل وتتالي عطاياه وتنوّعها فيه. ليبشّروا في نهاية المطاف بالوصول ويلجوا من باب الريان الذي فضّل الله به الصائمين دون غيرهم قال صلى الله عليه وسلم:( إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد). هذه التقوى التي اكتسبوها وكالوا منها الكيل الأوفى في رحاب هذا الشهر والتي هي غايته العظمى كما بيّن رب العزّة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(البقرة183). وقد قهروا نفوسهم وروّضوها وقدّموها مهرا مستحقّا إلى تلكم الجنّة التي قيل أنها عروس ومهرها قهر النفوس . ولقد أراد المولى عز وجل لشهر الصيام أن يكون محطة تزوّد وفرصة تحوّل ومناسبة تغيير نحو الأفضل والأحسن والأنجى لجموع المؤمنين. ولا يتم كل ذلك إلا إذا أدركنا الأبعاد العملية للصيام وحققناها بنسب مقبولة في مدرسته على أرض الواقع وأن نزن مدى قبولنا في هذه المدرسة أو رسوبنا فيها من خلال تحقيقنا لهذه الأبعاد وممارستها والعمل على ترسيخها وتثبيتها على المستوى الفردي والجماعي والانتقال بذلك من صيام العادة والتقليد والمحاكاة الذي يمارسه عدد كبير من المسلمين للأسف الشديد إلى صيام العبادة بمفهومها الشامل والإيجابي كما أراده مشرّعه سبحانه .ولعل أهم هذه الأبعاد العملية لمدرسة الصيام هي: البعد الاجتماعي بحيث يغرس الروح الجماعية والاجتماعية لدى المؤمن فيعمق لديه الشعور بآلام الآخرين وحاجاتهم ومعاناتهم عندما يعرف عمليا معنى الجوع وفقدان الطعام والشراب الأمر الذي يدفعه إلى السعي الحثيث ليساهم في سد حاجات الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من المؤمنين والعمل على تحسس معاناتهم والمشاركة في دفعها ما استطاع. كما أن أجواء الصيام الروحية والإيمانية تساعد على إصلاح ذات البين والتغلب على الخصومات والمشاحنات والتصارم والشنآن الحاصل بين أهل الإيمان فيما قبل رمضان فيأتي الصيام ليكون فرصة سانحة وعملية لتجاوز كل ذلك وتنقية القلوب وطي الصفحة والانطلاق من جديد وبنفس جديد وأجواء جديدة يسودها الصفاء والتآلف والود. كما يعتبر شهر الصيام فرصة كذلك لمضاعفة بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران تعميق الإخاء بين الإخوان وإجبار النقص والكسر الحادث في هذه العلاقات الاجتماعية قبل رمضان والخروج منه بعلاقات أكثر متانة وصلات أكثر وثوقا أعطاها الصيام من روحه وبركانه وخيراته وفضائله لتستمر بسقف مرتفع ومستوى متميز لتعم إيجابياتها وثمارها الطيبة المجتمع ككل والأمة جمعاء. فالصيام دواء فعال لمرض الأنا المتضخم لدى البعض فيضيق دوائره في نفس المؤمن الصائم لتحل محلها الروح الجماعية وحب الخير للناس وتتسع لديه لتشمل الجميع الصغير والكبير والقريب والبعيد والمحسن والمسيء .ويشير إلى هذا البعد في الصيام حديث:( مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيء) (رواه الترمذي). حديث:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) (رواه البخاري).