أضحت الصداقة الحقيقية في عالم تحكمه الماديات عملة نادرة، يصعب الحصول عليها في ظل المتغيرات المتلاحقة، وتقلبات المصالح فسار صديق الأمس عدو اليوم، وعدو الأمس صديق اليوم، في ظل غياب المبادئ والأسس التي تبنى عليها الصداقات، على أن الصداقة شعور دفين داخل النفس البشرية، ولد مع الإنسان وفي فطرته لا يستطيع المرء الاستغناء عنه، من هنا جاء قول علماء الاجتماع: الإنسان مدني بطبعه، لأنه خلق لكي يأنس ويُأنس إليه وهذا أحد معاني كلمة الإنسان. ولما كان للصحبة أثر بالغ في حياة النفس عني بها الإسلام عناية فائقة، فحث - الرسول صلى الله عليه وسلم - أتباعه على اختيار الخل الوفي، فإن المرء يوم القيامة يحشر مع خليله، فلينظر أحدنا من يخالل فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: »مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً«. فالصديق الصالح كحامل المسك يصيبك بريحه الطيبة لما يحمله من أخلاق فاضلة، يأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر، يأخذ بيدك إلى ما ينفعك، ينصحك إذا وقعت في الخطأ، ويحثك على مراقبة الله في السر والعلن، كما تمتد بركة رفقته لك بعد موتك فتجده عند قبرك يبكي على فراقك ويدعو الله لك بالثبات والعفو والمغفرة، فتجد أثر تلك الصحبة يوم القيامة يقول الله تعالى: (الاخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) الزخرف: 67 فإذا بالمتحابين في الله آمنين في ظله كما روى مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: »إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلا لِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاظِلَّ إِلاظِلِّي« بينما رفيق السوء لا يأمرك إلا بالمنكر، ولا ينهاك إلا عن معروف، ويأمرك بالجهر بالمعصية والفواحش، فهو لا يعرف الدعاء، وإن دعا لا تدرى هل يقبل الله منه وهو على ما فيه من معاصٍ وموبقات، لذلك حذر الإسلام المسلمين من سوء اختيار الصحبة وبالذات رفقاء السوء، الذين يجاهرون بالمعاصي ويباشرون الفواحش دون أي وازع ديني ولا أخلاقي لما في صحبتهم من الداء المستطير، وما في مجالستهم من الوباء الخطير، فأصدقاء السوء عندما تقع في مشكلة أو تحل بك مصيبة فإنهم يتخلون عنك ويبحثون عن غيرك، وإذا كنت لا تريد الوقوع معهم في الحرام فإنهم يستميتون من أجل إيقاعك معهم في المعصية ويزينوها لك. قال تعالى: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَاللانْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) فصلت 25 وفي المقابل حث الإسلام المسلم على اختيار الصحبة الصالحة والارتباط بأصدقاء الخير الذين إذا نسيت ذكروك، وإذا تذكرت أعانوك، روى أبو يعلى الموصلي عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال صلى الله عليه وسلم »من ذكَّركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله« وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعته ويحوطه من ورائه« رواه أبو داود. قال ابن الجوزي: رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر. وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار، خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار. فتخيل أخي القارئ كم من فائدة تجنيها من مجالسة الأخيار، وكم من معصية وضرر تصيبك من مجالسة الأشرار. فالصاحب ساحب فإما أن يصحبك ويسحبك معه إلى ما فيه خيرك، فتنال عفو الله تعالى ومغفرته وجنته، وإما أن يكون دليلك إلى الشر والسوء والنار، فيكون أول من يتبرم منك، فتعض أصابع الندم على ما فاتك يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا*يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلاِنْسَانِ خَذُولاً) الفرقان 27:29