الفضيل بن عياض المحدِّث الناسك، أوصله العلم بعد الغواية إلى كشف الحقائق والنظر إليها بما تستحق، فحاسب نفسه على الصغير والكبير وختم لسانه عن كل قول خطير وزهد في الدنيا حتى غدا ليس له نظير، لقد كان في نشأته شاباً عابثاً، يقطع الطريق وعشق فتاة فأثرت في قلبه وفكره، وفي ليلة من الليالي تسلل إليها فارتقى الجدار طمعاً في الوصال، فلما بلغ من الجدار أعلاه سمع قارئاً يقرأ قول الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) “الحديد، 16)، فلما سمع تحركت نوازع الإيمان في قلبه فقال: بلى يا رب، قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها مسافرون فسمع بعضهم يقولون: نرتحل، وبعضهم يقولون: حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا! قال ففكرت في أمري وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني وما أرى الله ساقني إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة بيتك الحرام. فأقبل على العلم والعبادة، وأخلص لله في ذلك وصدق ربه فأجرى الحكمة على لسانه قال بعض تلامذته: ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل كان إذا ذكر أو ذكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى، حتى يرحمه من يحضره وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله وأخذه وعطائه، وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره، لقد كان من المؤسسين للعلم القائم على الكتاب والسنة والعلم الصحيح فصار قدوة في العلم والعمل. نقل الناس عنه في ذلك أموراً كثيرة بقيت مثالاً يحتذى واعتزَّ له أخيار العلماء، وكبار الصلحاء فكان سفيان بن عيينة إمام الحرم في الفقه والحديث يقبل يده عرفانا بمكانته واستقامته وكان بينه وبين عبد الله بن المبارك الإمام الكبير صلة حسنة بل كان عبد الله بن المبارك يرسل له الهدايا وما يعيش به، وكان ابن المبارك يقول: إذا نظرت إلى الفضيل بن عياض جدّد لي الحزن، ومقتُّ نفسي ثم يبكي وقد فاضل بينه وبين أقرانه الكبار في عصره فقال: رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد، وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبا حنيفة ويقول: ما بقي على ظهر الأرض أفضل عندي من الفضيل بن عياض. ومن أقواله التي أثرت عنه وتناقلها العلماء، واهتدوا بها عبر القرون، قوله: لو أنه لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في الإمام، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد، وقيل له: ما الزهد؟ قال: القنوع، قيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم، قيل: ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض، قيل: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان. وقال: المؤمن يَغبط ولا يحسد، الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق. فكان يكثر من قوله: أحفظ لسانك وأقبل على شأنك واعرف زمانك وأخف مكانك. لقد كان للفضيل بن عياض قدم راسخة في التقوى ومكانة عظيمة في السلوك ومكانة في العلم أثرت هذه المآثر في معاصريه ومن جاء بعده فاستحق بها عرفانا بمكانته لقب (شيخ الإسلام) فرحمه الله رحمة واسعة.