في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الرابع والتسعون- بقلم: الطيب بن إبراهيم *قلب دي فوكو يدفن بتامنغست وجسده بالمنيعة كما كانت مواقف شارل دي فوكو في حياته غريبة الأطوار وحاملة للمفاجئات كان مقتله وما تلاه يحمل نفس المفاجئات والمواقف الغريبة والمثيرة للدهشة فالرجل قتل يوم 16 ديسمبر سنة 1916 ودفن يوم 2 ديسمبر وأعيد دفنه بعد عام من طرف صديقه الجنرال هنري لابرين Henry Laperrine في شهر ديسمبر سنة 1917 قبل أن يدفن هذا الأخير هو الآخر بجواره في افريل سنة 1920 وأعيد دفن شارل دي فوكو ونقلت رفاته من تمنراست إلى مدينة المنيعة بعد ثلاث عشرة سنة (13) أي سنة 1929 ؟!. ليس الملفت للانتباه هنا فقط هو تكرار عملية دفنه من مكان إلى مكان آخر ونقله من مدينة لمدينة أخرى بل الغريب في الأمر هو الفصل بين قلبه وجسده ودفن كل منهما في قبر خاص به وبمدينة بعيدة عن الأخرى. فكأن القلب اختار تمنراست ليدفن بها وألاّ يغادرها؟! واختيرت المنيعة لدفن الجسد فأصبح الجسد بلا قلب والقلب بدون جسد ليدفن بين مدينتين بينهما مئات الكيلومترات وهذه الكيفية في الدفن لم تكن اضطرارية نتيجة حرب أو تنكيل بالجثة بل كانت نتيجة قرار وخيار وكانت رسالة تحمل مضمونا ولها من الدلالة والرمزية ما لها. بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة شارل دي فوكو سنة 1926 عاد البطل للواجهة من جديد وتم إحياء ذكراه بمزيد من التمجيد والتكريم وبهذه المناسبة وتحديدا في شهر مارس سنة 1927 طرحت فكرة تطويب الأب دي فوكو وتكريمه والتطويب هنا هو الدرجة الثالثة وما قبل الأخيرة من التقديس الذي تُكرَّمُ به الشخصيات الكنسية المتوفية التي حققت إنجازات ووصلت إلى ما لم يصل إليه غيرها وضحّت بأرواحها من أجل تحقيق رسالتها وبتلك بالمناسبة أيضا تقرّر نقل وإعادة دفن رفاة شارل دي فوكو في مكان آخر أقرب نسبيا إلى الشمال من تمنراست ودفنه داخل تابوت وهو ما حرم منه في دفنته الأولى ووضع ضريح له يليق بمقامه بعيدا عن تمنراست خوفا من تعرضه لأي تلف أو اعتداء. برّر أصحاب الفكرة نقل رفاة دي فوكو من تمنراست إلى المنيعة بالمبررات التالية: أن لا تنقطع صلته بتمنراست وأن يبقى قلبه دفينا بها وأن يُسمح للمحافظ الرسولي للصحراء بممارسة رقابة فعالة على رفاة شارل دي فوكو وقبره بجواره. وأن يتم تسهيل الوصول إلى القبر بأقل تكلفة وأخيرا أن يكون القبر في منطقة قريبة للمسيحيين مقارنة بتامنغست الواقعة في أقصى الجنوب. وفي نفس الوقت فشلت الانتقادات المعارضة لنقله ودفنه بمكان آخر غير المكان الذي مات به وذلك بناء على نص وصيته. وهكذا تحولت الفكرة إلى قرار والقرار أصبح محل تطبيق بداية من شهر أفريل سنة 1929. بدأ الشروع في مشروع نقل وإعادة دفن شارل دي فوكو يوم 18 أفريل سنة 1929 وعلى الساعة الثالثة بعد الظهر وتحت إشراف المحافظ الرسولي المونسنيور غوستاف نوي وبحضور أنطوان قسطنطين عضو مجلس جمعية الإرساليات الإفريقية للآباء البيض وعدة شخصيات دينية وبحضور قيادات عسكرية عليا كان على رأسها الجنرال مينيي Meynie قائد المناطق الجنوبية والنقيب ليورو Lehuraux والملازم دورنون D Ornant قائد منطقة الهقار وبحضور جمع من المسيحيين بدأ نبش قبر شارل دي فوكو من قبل عمال جزائريين وعلى عمق متر تقريبا وجدت رفاته بدون تابوت مغطاة بألواح باب الصومعة التي قُتل أمامها فاستخرجت الرفاة وكان بعضها لا زال متماسكا كالرأس والجذع والأطراف انفصلت عن بعضها والجهة اليسرى الموالية للأرض تحلّلت وكذلك الكفن تحلّل ولم يبقى منه إلا بعض القطع الصغيرة فلُفَّ ما تبقى في كفن جديد ووضع في تابوت. حيّا الجنود الرفاة بعد إخراجها وحمَلَ ضباط الصف التابوت إلى البرج الذي كان يسكنه دي فوكو وقضى فيه آخر أيامه قبل مقتله وهناك بدأ التفتيش بين عظام الهيكل على قلب شارل دي فوكو وهذا بعد ما يقرب من خمس عشرة سنة بعد موته فلم يجدوا غير غبار تراب في مكان القلب وحُمل هذا التراب القلب ووضع في صندوق خاص به ليدفن ويبقى في تمنراست. وبعد يومين من نبش قبر شارل دي فوكو وهو يوم 20 أبريل تم وضع الصندوق الذي يحتوي على قلب الأب شارل دي فوكو في نصب الجنرال هنري لابرين Henry Laperrine الذي مرّ على وفاته تسع سنوات. كان هذا الصندوق مختومًا من طرف الحاكم الرسولي ومُحاط بصندوق خشبي أبيض وبداخله وثيقة ثانية مختومة في قنينة زجاجية تشير إلى أن مفتاح الصندوق في يد محافظ غرداية الرسولي. أما الجسد فوضع في كفن مزدوج مغطى بثوب كهنوتي أبيض مزين بقلب يسوع الأقدس الذي كان يحمله دي فوكو على صدره في حياته كما وضعت له مسبحة حول خصره وبتاريخ 20 أبريل / نيسان وبحضور الملازم دورنون D Ornant قائد الهقار تم إغلاق هذا التابوت الأول بعد وضع وثيقة في قنينة زجاجية مختومة بختم محافظ غرداية الرسولي غوستاف نوي . كان التابوت بعد إغلاقه محاطًا بضفيرة حمراء وضع عليها الحاكم الرسولي ختمه أيضا ثم أحيطت بصفيحة من الزنك ووضعت في تابوت ثان من الخشب الصلب يحمل هذا النقش. بدأت عملية نبش قبر دي فوكو يوم الخميس 18 أفريل مساء واستغرقت عملية الاستخراج وفصل القلب عن الجسد وإعادة دفنه ووضع بقية الجسد في تابوت جديد قبل نقله للمنيعة. استغرق ذلك كله ثلاثة أيام وانتهى العمل يوم السبت 20 أفريل لتنقل رفاة دي فوكو إلى المنيعة يوم 21 أفريل سنة 1929. نُقِل تابوت الأب شارل دي فوكو بالسيارة من مدينة تمنراست باتجاه مدينة المنيعة صُحبة الوفد المرافق له يوم الأحد 21 افريل سنة 1929 على الساعة التاسعة صباحا وبعد رحلة متأنية دامت خمسة أيام وصل النعش إلى مدينة المنيعة يوم الخميس 25 أفريل على الساعة الحادية عشرة صباحا وفي اليوم الموالي أي الجمعة 26 أفريل على الساعة السابعة صباحا تم حمل تابوت الأب شارل دي فوكو إلى كنيسة المنيعة لتتم مباركته من قبل المحافظ الرسولي المونسنيور نوي وبحضور جمع من المسيحيين ليتم دفنه في قبره الأخير. وهكذا أسدل الستار على شارل دي فوكو بقبرين احدهما بتمنراست والآخر بالمنيعة!.