بقلم: وائل قنديل أوسعنا التاريخ دروساً قاسية أكثر هذه الدروس قسوة أن الخفي من القرارات أكثر خطراً من المُعلَن وأن الرسمي من الاتفاقات والتفاهمات أقلّ أذىً من التفاهمات السرّية. كانت كامب ديفيد اللعينة تجسيداً لهذا الحصّة المرهقة من إملاءات التاريخ إذ ثبت أن غير المُعلَن وغير الرسمي وغير المكتوب هو الأكثر تأثيراً وطغياناً على مآلاتها ومخرجاتها حتى يمكن القول أن المشهد الراهن في الشرق الأوسط ونحن على بعد أربعين عاماً من اتفاقية كامب ديفيد المتعلّقة بالقضية الفلسطينية هو نتيجة مباشرة للتفاهمات السرّية غير المُعلَنة والشفهية غير المنصوص عليها بين أنور السادات رئيس مصر ومناحم بيغين رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني وقتها. ليس الحديث هنا عن ملاحق سرّية في كامب ديفيد إذ لم يثبت حتى الآن وجود الملاحق السرّية وإنما عن تفاهمات شفهية مُعلَنة من طريق مؤسّس مسار كامب ديفيد ومديره وراعيه الروحي والسياسي الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر فبحسب ما ورد في مذكّرات كارتر Keeping Faith: Memoirs of a President كانت هناك تفاهمات شفوية بين رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن ورئيس مصر أنور السادات خاصّة حول القضية الفلسطينية مفادها أن خطّة الحكم الذاتي لن تؤدي إلى دولة فلسطينية وهذا التفاهم لم يُسجّل رسمياً. معطيات الوضع الراهن في المنطقة تقول بوضوح إن ما يجري كلّه يبدو تطبيقاً لهذا التفاهم الشفوي غير المدوّن في الاتفاقية واتّخذ عند قيادات الاحتلال الصهيوني صفةَ القداسة فبات الكلام عن دولة فلسطينية بالنسبة لهم أمراً غير مقبول وغير قابل للنقاش بل وصار في نظر غلاة الصهاينة خطاباً عدائياً يعرّض السلام المزعوم وأمن المنطقة للخطر لتبلغ الوقاحة ذروتها بالحديث عن إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية في أراضي السعودية ناهيك عن الإلحاح الإسرائيلي الأميركي على أن مساحة الكيان الصهيوني صغيرة ولا بدّ من توسّعه جغرافياً في الإقليم وهو ما شرحه الصهيوني اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش وأن حدود الدولة اليهودية تمتدّ إلى سورية والعراق ومصر والأردن والسعودية. *ما خفي أعظم الأمر ذاته تجده في اتفاقية أوسلو (1993) التي لم تتضمّن هي الأخرى ملاحق سرّية بالمعنى الحرفي للمصطلح لكنّها اشتملت على كثير من المسكوت عنه أو المؤجل نقاشه الذي اكتسب عند الصهاينة الحجّية القانونية على الرغم من عدم وجوده أصلاً بحيث بدت أوسلو حلقةً أخرى من حلقات الاستسلام بعد كامب ديفيد التي بعثرت ما كان قائماً من موقف عربي موحّد ومقاربة عربية واحدة من الصراع ما دفع المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد إلى القول إن أوسلو كان بمثابة استسلام لأنه لم يضمن حقوقاً واضحةً للفلسطينيين بينما منح إسرائيل مزايا استراتيجية من دون الإعلان عنها صراحة. الحاصل فعلياً أن كامب ديفيد وأخواتها نقلتا الواقع السياسي في المنطقة من حالة إسرائيل المزعومة في نظر الخطاب السياسي للنظام العربي وبحسب المستقرّ في وجدان الشارع العربي إلى حالة فلسطين المزعومة والعرب الدخلاء على إقليم الشرق الأوسط الذي بات الصهاينة يسلكون وكأن شرق أوسطهم بمعنى أنهم المتن وليس العرب سوى هوامش مبعثرة حول هذا المتن الأمر الذي انعكس على الخطاب الدعائي الصهيوني الذي يقوم على أن إسرائيل هي المعيار الوحيد للحكم على الأشياء والأشخاص بالخير أو الشر وهو مستوى من الغرور والغطرسة لم تكن تصل إليه إسرائيل لولا أنها وجدت جوهر الخطاب الرسمي العربي يتأسّس على تسوّل موافقتها على السماح بوجود فلسطينيين على هامشها ولا يتحدّث عن حقّ المواطن العربي في الأمن والسلامة إلا باعتباره وسيلةً لبلوغ غاية أكثر أهمية وهي أمن وسلامة المستوطن الصهيوني الذي يصفه هذا الخطاب بأنه المواطن الإسرائيلي . يحدث ذلك كلّه وسط حالة من الضجر الرسمي العربي من فكرة مقاومة الاحتلال والتواطؤ على هذا المشروع الذي يزعج الذين ينعمون بالاسترخاء على وسائد السلام الوهمي حتى صارت تصريحات نتنياهو عن وجود المقاومة في غزّة تبدو وكأنّها استنساخ لتصريحات سياسيين عرب يرفضون أيّ دور عسكري أو إداري لحركات المقاومة في غزّة فلماذا لا يتبجّح نتنياهو ويقول بكلّ ثقة: أصدقاؤنا في الدول العربية والعالم يعرفون أننا إن لم ننتصر سيأتي دورهم .