لم تعد العجوز حاضرة في سوق دلالة الذهب فحسب بل صارت تقتحم الأسواق الفوضوية لبيع مختلف المنتجات بعد أن دفعها ربما العوز إلى هناك أو الانشغال بحرفة بدل المكوث الدائم بالبيت الذي ينجم عنه الملل، أو حتى رأت أن امتهان حرفة أحسن بكثير من مد اليد· هن عجائز ملأت التجاعيد وجوههن إلا أنهن أبين إلا تحديها بامتهانهن حرفة البيع بالأسواق الشعبية، ولم تقتصر طبيعة منتجاتهن على المأكولات التقليدية بل تنوعت بين مختلف المنتجات، ونجدهن بمحاذاة الشبان والرجال على مستوى الأسواق وهن يلبسن الحجاب ويضعن العجار حفاظا على حرمتهن، ولضمان احترامهن من طرف الباعة الآخرين، وحقيقة حظين باحترام الآخرين فهن لا يجدن أي حرج في العمل وسط تلك الطاولات التي هي ملك لشبان قد يكونوا متهورين، إلا أن تهورهم يتحول إلى رزانة أمام هذه العجوز أو تلك التي هي في مرتبة الأم· اقتربنا من إحداهن على مستوى ساحة أول ماي والتي كانت تعرض بعض المستلزمات الخاصة بالحلاقة وتصفيف الشعر، وعلى الرغم من بساطة معروضاتها إلا أنها قالت إنها أحسن بكثير من مد اليد أو كما قالت (اللي تقولو سلفلي قولو صرفلي) وهو مثل شعبي معروف يشجع على العمل والمثابرة، وعن يومياتها أضافت أنها تمارس تجارتها بطريقة جد عادية أمام هؤلاء الباعة الذين يحترمونها كثيرا كما أن الزبائن ألفوا حضورها هناك على الرغم من عدم تأقلمهم معها في الأول، وقالت إن التجارة ليست عيبا مادام أنها تبعد عن طريق الحرام، لتضيف أن بطالة أبنائها ومرض زوجها هي كلها ظروف دفعتها إلى ممارسة التجارة وبيع تلك المستلزمات لتحقيق مدخول يومي على الرغم من بساطته إلا أنه يفك كربة من كرب العائلة في اقتناء المستلزمات الأساسية من حليب وخبز· عجوز أخرى التقيناها بمارشي 12 بالعاصمة وتخصصت في بيع الحمص المستعمل في العديد من الأطباق وكذا بعض الحشائش، وكانت تصنف تلك الحمص الجاهزة والمنقوعة في الماء بأكياس ليكون ثمن الكيس الواحد 10 دنانير، تفك به كربة من تناست نقع الحمص في الماء بالنظر إلى ضرورة تلك الخطوة قبل إعداد بعض الأطباق التي يدخل فيها الحمص، قالت إنها احترفت المهنة منذ سنين خلت بالسوق واكتسبت زبائن دائمين، حتى أن خفة ظلها تجذبهم نحوها بعد أن تجاوزت عتبة السبعين سنة إلا أنها تشعر بحيوية خارقة للعادة وهي تمارس نشاطها بدل الاستسلام للمرض على مستوى البيت، فهي لا تحب الفراغ وتفضل أن تشغل نفسها بتلك التجارة البسيطة لمساعدة العائلة في المعيشة الصعبة، وأضافت أنها أحيانا تمنح بعض الأكياس بالمجان إلى زبائنها الدائمين من باب الصدقة خاصة وأنها تحب فعل الخير، لتختم بالقول إنها ستستمر في التجارة ولا يبعدها عنها إلا الموت كونها ألفت زبائنها وألفوها ووسعت معارفها بفضل تلك التجارة على الرغم من بساطتها·