شقق دون أرضيات وأسقف من البلاستيك للعيش في هيكل عمارة بباب الوادي! أسقف مهدمة، جدران مشققة، وأرواح منهكة من الموت الذي يطاردها منذ خمسين سنة في عمارة الموت بحي إبراهيم غرافة في باب الوادي، بناية تحولت إلى شبح تعرف به باب الوادي، فالكل السكان والمسؤولون المحليون يعرفون أين يسكن الموت منذ خمسين سنة لكن لا أحد تحرك لإنقاذ القاطنين هناك. تعالت الصرخات ليلة الأربعاء الماضي أي الليلة التي سبقت الموعد الانتخابي، وهذا من باب الوادي وبالضبط في عمارة الموت بابراهيم غرافة، نداءات استغاثة أطلقت من أفواه نساء وشيوخ قهرهم الموت في شقق لم تحمل أسقفها الأمطار الطوفانية التي تساقطت طيلة ساعات.. وتدخلت الحماية المدنية مرفوقة بعناصر من الأمن وحتى البلدية الغائبة أبدا عن تنفيذ وعودها، كانت هناك تكتب تقارير الموت الذي قرر أن يسكن في إبراهيم غرافة لينهش ببطء أجساد مواطنين منهم مجاهدون كبلت أحلامهم بالعيش الحسن وسط ظروف قاسية معترفة بها من طرف السلطات المحلية.. وللموت هنا مكان.. انتقلنا إلى عمارة الموت بابراهيم غرافة في باب الوادي، للوقوف على الأضرار التي لحقت هذه البناية بفعل الأمطار التي تهاطلت على العاصمة طيلة نهاية الأسبوع الماضي، والتي دفعت بالعائلات إلى الهروب من البناية باتجاه الشارع، آملة التفاتة السلطات إلى وضعيتها، إلا أن الردود العقيمة هي ذاتها، من حيث أولويتهم في الاستفادة من السكن فور ورود أي برنامج سكني لفائدة بلدية باب الوادي.. وحتى البنايات المهددة بالانهيار والموجودة في باب الوادي والمقدرة حسب تنسيقية البنايات المهددة بالانهيار ب37 بناية تحت الخط الأحمر، منحوا الأولوية في الترحيل لهذه العمارة لكونها تشكل خطرا كبيرا على سكانها وهذا ما عايناه عن قرب عند تنقلنا إليها.. بمجرد ولوجنا إلى الحي واجهتنا البنايات القديمة المتراصة والتي تعود نشأتها إلى العهد الاستعماري، وتوالت عليها العوامل الطبيعية القاسية من زلازل وفيضانات لتترك فيها أثرها الواضح، فالحجارة تملأ الحي، تساقطت من الشرفات بفعل الأمطار الأخيرة، فالموت يسكن في كل ركن من باب الوادي.. وعندما وصلنا إلى البناية التي يعرفها كل سكان باب الوادي من سعيد تواتي إلى ساحة الساعات الثلاث، شممنا رائحة الموت على واجهة الباب الحديدي المهترئ وعليه خطا واضحا بالأحمر يحذر من أن العمارة مهددة بالانهيار. ألواح خشبية للسير بدل أرضية الشقق المتهدمة وعند ولوجنا إلى داخل البناية وصعودنا عبر السلالم التي بدت وكأنها هضبة بعد أن تزعزع كل شيء فيها، فاستحال صعودها إلا بصعوبة كبيرة، وقادتنا إحدى الساكنات إلى الطابق الثالث وهو الأخير فالبناية مكونة من ثلاث طوابق تسكن بها 6 عائلات.. وكانت دهشتنا كبيرة مريعة في وقت واحد عندما صعدنا إلى الطابق الثالث بصعوبة، ثم فتح لنا باب أحد الشقق شيخ بلغ من العمر عتيا، بحركة بطيئة جدا فتح باب شقته والكارثة انه كان يقف على خشبة طويلة موضوعة على الأرضية ليتكن من الاجتياز للوصول إلى باب الخروج لأن الأرضية لم يكن لها وجود، فلقد انهارت أرضية المطبخ سنة 2008، حتى أنه تراءت لنا الشقة المتواجدة في الطابق الثاني ومن كان بها من أفراد.. مجاهدون يخاطرون بحياتهم في غرف دون أسقف ودون أرضية وبعد أن ولجنا إلى داخل الشقة بصعوبة مع شيخ أمضى نصف حياته مع الموت في إبراهيم غرافة، ينتظر أملا في شقة ولو بغرفة واحدة بعيدا عن هذا الجحيم.. وفي غرفة صغيرة معتمة تملأ أركانها الرطوبة القاتلة، كان في أقسى ركن بها شيخ يفترش بعض الأفرشة البالية تحت قدميه غطاء جلي للاحتماء من الأمطار المترسبة عبر بقايا سقف الغرفة المتهدم عن آخره.. بقلب محتسب وصبر لا مثيل له، استقلنا هذا الشيخ في غرفته المعتمة، ضاربا للمسؤولين المحليين أسمى الأمثال في الشجاعة والقوة، فسنه الذي تجاوز الثمانين لا يمنع جسده المتآكل من البقاء في مثل هذه الظروف والمخاطرة بالنوم مع الموت جنبا إلى جنب في فراش واحد تفوح منه رائحة الشقاء.. رحلة شقاء بدأها هذا الرجل الذي دافع في وقت مضى عن بلده وقت الاستعمار، إلا أنه وجد نفسه محاصرا في شقة ضيقة في قلب أقدم وأعرق حي شعبي بالعاصمة، وطوال خمسين سنة ظل وزوجته البالغة من العمر الآن أكثر من سبعين سنة يصارعان كل أنواع العذاب حتى الثمالة، منتظرين فرجا من السماء، قبل الممات.. إلا أن الحكاية لا زالت مستمرة فأبناء عائلة حمادي منهم من تجاوز الأربعين من عمره دون أن يحظى بالزواج، فلا بيت آخر يأويه ولا دخل آخر يوفر له مسكنا آخر بعيدا عن الموت في إبراهيم غرافة. تركنا هذا الشيخ مفترشا الموت في غرفته الخالية من الأمان، دون أن يشعر ولو لحظة بالخوف، ففي عمارة الموت، أصبح هذا الأخير فردا من العائلات وابنا بارا لا يغادر شققها فله موعد لا يتأخر عنه مع كل شتاء.. نزلنا رفقة إحدى أفراد عائلة حمادي إلى الطابق الثاني بنفس الصعوبة التي ولجنا بها، فالرواق الخارجي خسفت أرضيته، والسلالم التي كاد هذا الشيخ أن يموت فيها منذ أسبوعين، بعد أن كان ذاهبا لصلاة المغرب، فزلت قدمه ووجد نفسه في الطابق الثاني بعد أن التوى جسده وفقد الوعي تماما، طيلة ساعات كانت عائلة حمادي فيها تبحث عن أبيها الذي تأخر عن العودة إلى المنزل على غير عادته فكانت المفاجأة، حين فتحت جارتهم بالطابق الثاني باب شقتها ووجدت الشيخ الذي بلغ من العمر عتيا ملقى مغشى عليه، فلولا رحمة الله للقي هذا الشيخ حتفه على هذه السلالم فلقد سقط من الطابق الثالث إلى الثاني بسبب الفراغ الموجود فيها.. وبعد تدخل العائلة والتي قامت بإرسال الشيخ إلى المستشفى بشكل عاجل أين تلقى العلاجات وبقي فيها أكثر من أسبوعين لخطورة أصابته على مستوى الظهر، وبعدها كان مجبرا على العودة إلى غرفته التي لم يعد يفصلها عن الشارع إلا بعض الجدران المشققة.. فهذا الشيخ يريد سكنا يستحقه أو قبرا يضمه في غرفته المعتمة التي تلبس رداء الموت منذ 2003، في الطابق الثاني تسكن عائلة بركات هي الأخرى تعيش نفس الأوضاع ومن بينها أيضا مجاهد كافح من أجل استقلال الجزائر.. ولأول ما قابلنا داخل هذه الشقة هو أشباح لأشخاص نائمين بكل راحة وطمأنينة، والموت هناك بجانبهم يقف على رؤوسهم، فلقد أصابتنا الدهشة من هذا المنظر في الغرفتين المتواجدتين بشقة عائلة بركات، التي ألفت -حسب- جدتهم النوم مع الموت تحت أسقف لا وجود لها، وبعضها تهدم نصفه وقامت العائلية بتغطيته بغطاء بلاستكي لدرء مياه الأمطار، والنصف الآخر أحسسنا بقرب تساقطه لفرط هشاشته، ورغم ذلك يواصل أفراد الأسرة النوم، وحسب جدتهم فالأبناء وأحفادهم لا ينامون طيلة الليل خوفا من انهيار مفاجئ للشقة فالموت تحت الأنقاض في الليل مخيف بالنسبة لهم فلذلك فإنهم يهربون من الشقة طيلة الليل ولا يدخلون إلا في الساعات الأولى للصباح، من أجل أخذ قسط من الراحة والنوم مجددا مع الموت.. وللإشارة فإن عمارة إبراهيم غرافة تعتبر من أخطر البنايات من حيث احتمال انهيارها في أية لحظة وهذا معترف به من طرف المسؤولين والتقارير التي لا حصر لها التي كتبتها مصالح الحماية المدنية، والأمن وشرطة العمران، وهذا منذ الثمانينات، فهذه البناية تتآكل لأكثر من ثلاثين سنة، وزادت فيضانات باب الوادي وزلزال بومرداس 2003 من تأزم الوضع، وكانت القطرة التي أفاضت الكأس خلال 2008 أين تساقطت أجزاء كبيرة من أسقف الشقق، ودعت مصالح الحماية هذه العائلات إلى الخروج فورا من هذه البناية المصنفة في الخانة الحمراء، وخلال ماي الماضي ازدادت الأوضاع خطورة في عمارة الموت، وكانت الكارثة خلال الأسبوع الماضي أين هربت العائلات إلى العراء في ظل تواصل تساقط الأمطار بشكل غزير، مما تسبب في اختلال بنيان العمارة مع تسرب كميات كبيرة من الأمطار، والتي وقفنا على آثارها بمختلف الغرف رغم توقف سقوط الأمطار منذ نهاية الأسبوع.. فهذه العائلات لا تطالب بالمستحيل فقط سقفا يحميها من التعرض للموت تحت الأنقاض كما حدث مع أطفال في بولوغين وبوزريعة وواد أوشايح في أقل من سنة، فهذه العمارة بحاجة إلى التفاتة فورية من السلطات المحلية وعلى رأسها ولاية الجزائر، فالموت صار قاب قوسين أو أدنى من عائلات تنام مع الموت منذ خمسين سنة. وللعلم وحسب كمال عوفي رئيس تنسيقية البنايات المهددة بالانهيار بباب الوادي، وخلال اتصال أخبار اليوم به، فإن البنايات الموضوعة في الخانة الحمراء في باب الوادي تقدر ب37 بناية من بينها 10 في حالة خطيرة جدا وتستدعي إعادة إسكان قاطينها بشكل فوري والتي من بينها عمارة (إبراهيم غرافة) التي تشهد حالة متقدمة من التدهور، حيث تدخلت التنسيقية من أجل الوصول إلى حل مؤقت بإخراج العائلات من دائرة الموت في هذه البناية من خلال فتح أبواب قاعة سينما تامنغورث لإيواء هذه العائلات ريثما تأتي حلول البلدية من خلال منح سكنات لائقة لهذه العائلات المنكوبة، إلا أن البلدية كالعادة أخلت مسؤوليتها من الموضوع، وعلى هذا الرد العقيم تهدد تنسيقية البنايات المهددة بالانهيار في باب الوادي بمقاضاة السلطات المحلية من بلدية ومصالح الولاية في حالة انهيار إحدى هذه البنايات ووقوع ضحايا أبرياء رفعوا طيلة السنوات الماضية نداءات استغاثة لم تلق آذانا صاغية. وفي انتظار وضع النقاط على الحروف في المجلس الشعبي البلدي، تبقى مئات العائلات في باب الوادي تعيش جنبا إلى جنب مع الموت.