ابن الجوزي، فقيه حنبلي ومحدث ومؤرخ ومتكلم عاش في بغداد، وحظي بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون، وعرف بابن الجوزي نسبة لشجرة جوز كانت في داره بواسط، ولم تكن بالبلدة شجرة جوز سواها، وقد كتب ألفي مجلد واهتدى على يديه ما يقارب مئة ألف. وعظ الناس هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي، وينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في بغداد سنة 509 هجرية، وتوفي أبوه وهو في الثالثة من عمره، فربته عمته، وأقاربه كانوا تجارا في النحاس، ولما ترعرع، حملته عمته إلى ابن ناصر، فأسمعه الكثير، وأحب الوعظ، فوعظ الناس وهو صبي، وتلقى العلم على أيدي أكثر من 80 شيخا. وعاش ابن الجوزي منذ طفولته ورعاً زاهداً، لا يحب مخالطة الناس خوفاً من ضياع الوقت، ووقوع الهفوات، فصان بذلك نفسه وروحه ووقته، فقال فيه الإمام ابن كثير عند ترجمته له (وكان، وهو صبيٌّ، ديناً لا يخالط أحداً ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان). وقال ابن الجوزي واصفاً نفسه في صغره: كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، وكان له دورٌ كبير ومشاركة فعالة في الخدمات الاجتماعية، وقد بنى مدرسة بدرب دينار وأسس فيها مكتبة كبيرة ووقف عليها كتبه وكان يدرس أيضا بعدة مدارس ببغداد. وتميز ابن الجوزي بغزارة إنتاجه وكثرة مصنفاته التي بلغت نحو ثلاثمئة مصنف شملت الكثير من العلوم والفنون، فهو أحد العلماء المكثرين في التصنيف في التفسير والحديث والتاريخ واللغة والطب والفقه والمواعظ وغيرها من العلوم، ومن أشهر تلك المصنفات (المغني) في التفسير الذي اختصره في أربعة مجلدات، وسماه: (زاد المسير)، وله (تذكرة الأريب) في اللغة، و(الوجوه والنظائر)، و(فنون الأفنان)، و(جامع المسانيد) وهو عبارة عن سبعة مجلدات، و(الحدائق) مجلدان، و(نقي النقل) مجلدان، و(عيون الحكايات) مجلدان، و(التحقيق في مسائل الخلاف) مجلدان، و(مشكل الصحاح) أربعة مجلدات، و(المنتظم في التاريخ) عشرة مجلدات، و(الانتصار في الخلافيات) مجلدان، و(مشهور المسائل) مجلدان، و(صفوة الصفوة) أربعة مجلدات. التقوى وكان ابن الجوزي ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالسَه الملوكُ والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء، ولا يكاد المجلس ينقص عن ألوف كثيرة، حتى قيل في بعض مجالسه: إن الجمع كان مئة ألف. وقال حفيده أبو المظفر: سمعت جدي يقول على المنبر: (بأصبعي هاتين كتبت ألفي مجلدة، وتاب على يدي مئة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألفا، وقال يوما في وعظه: يا أمير المؤمنين، إن تكلمتُ، خفت منك، وإن سكتّ، خفت عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك، فقول الناصح: اتق الله خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم. وقال عنه أبو عبد الله بن الدبيثي في (تاريخه): شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك. وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وكان من أحسن الناس كلاما، وأتمهم نظاما، وأعذبهم لسانا، وأجودهم بيانا. القناعة ومن أقواله المأثورة: (ما اجتمع لامرئ أمله إلا وسعى في تفريطه أجله)، وكذلك قوله عن الواعظ: (احذروا جاهل الأطباء، فربما سمَّى سمّا، ولم يعرف المسمى)، ومن أقواله أيضا: ليس في الدنيا أطيب عيشا من منفرد عن العالم بالعلم، فهو أنيسه وجليسه، قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة، لا عن تكلف ولا تضييع دين، وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها، والتحف بالقناعة باليسير، إذا لم يقدر على الكثير بهذا الاستعفاف يسلم دينه ودنياه، واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ويفرجه عن البساتين، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة، ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم، فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط).