يبدو أننا في حاجة لأن ننسف كل ما عرفناه من علوم سياسية حتى نقر بأن ما جرى في مصر ليس انقلابا حتى لو كان أبيض. الوضع بمنتهى الوضوح أن المؤسسة العسكرية أقدمت على عزل رئيس جمهورية قادم بالانتخاب، بعد إنذار شديد اللهجة أمهله 48 ساعة لحل الموقف السياسي المعقد.. وبعد ذلك خرج رئيس الجمهورية طارحا مبادرة أو مجموعة أفكار لم يكن أحد من الذين قرروا أن يصرمونها مصبحين للتعامل معها أو الاهتمام بها .. ثم بعد انتهاء المهلة خرج وزير الدفاع بخارطة مستقبل تتطابق تماما مع ما طرحه الرئيس مع فارق وحيد هو إزاحة الرئيس من المشهد. لقد أعلن الرئيس قبوله بحكومة ائتلافية تضم مختلف ألوان الطيف السياسي وتشكيل لجنة لإنفاذ التعديلات المطلوبة فى الدستور، وأخرى للمصالحة الوطنية، وإشراك الشباب في الحكم والذهاب إلى انتخابات برلمانية. وهذه الخطوات ذاتها تضمنتها خارطة المستقبل التي أعلنها القائد العسكري، لكن بدون وجود رئيس الجمهورية، ومع تعطيل العمل بالدستور والمجيء برئيس المحكمة الدستورية حاكما للبلاد مع الأخذ في الاعتبار أن كل ذلك جرى في مقر وزارة الدفاع بناء على استدعاء القائد العام للقوات المسلحة لقيادات سياسية ودينية. تلك هي مفردات الصورة التي يمكن للرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يضعها أمام طالب مبتدئ في العلوم السياسية ويطلب منه تعريفا مناسبا لما جرى. إن ما يحدث منذ إعلان وزير الدفاع لخطة المستقبل يبدو شيئا مثيرا للدهشة والعجب، فبعد هتاف صاخب للحشود الغاضبة (الحرية بتتولد) اشتغلت آلة المصادرات وإغلاق القنوات الفضائية والصحف المؤيدة للرئيس الذي تم عزله، وبعد الإعلان عن مصالحة وطنية بغير إقصاء أو إبعاد دارت ماكينة الاعتقال تحصد قيادات الإخوان والإسلاميين. وأخشى لو استمرت الحرية تتوالد بهذه الوتيرة فلن يبقى في مصر مكان لصوت أو قلم ينطق بما يغضب السادة أصحاب المستقبل، الأمر الذي يحول المرحلة من انتقالية إلى انتقامية بامتياز. لقد مكث محمد مرسى في الحكم عاما واحدا، كان يتعرض خلاله للشتائم والسباب والتخوين والإهانة من قنوات وصحف لم تترك مفردة في قاموس البذاءة إلا واستخدمتها، بل أن بعضا من هذه المنابر اتهمت وزير الدفاع بالخيانة والتفريط في الفترة التي أعقبت اختيار الدكتور مرسي له ومع ذلك لم تمتد يد لصحيفة أو قناة بالإغلاق أو بالمصادرة، فضلا عن أن السادة الحقوقيين والمتكلمين باسم حرية التعبير كانوا يوفرون غطاء يحمي كل هذه الانتهاكات المهنية والأخلاقية، لمجرد أنها توافق هواهم في النيل من رئيس أرادوا إسقاطه. لقد أصيب المغردون دفاعا عن حرية الإسفاف والبذاءة بالخرس هذه المرة، فلم نسمع لهم صوتا ولا همسا ضد عمليات الاعتقال والمصادرة التي تدور على نطاق واسع، والأكثر رداءة أن منهم من يبررها بحجة أنها إجراءات استثنائية مؤقتة، وهم أول من يعلم أن (الاستثنائي) في بلادنا يصبح مقيما وأبديا في مثل هذه (الثورات المدرعة). فعلا (الحرية بتتولد)..