بعد نجاح الأنطولوجيا التي وضعها المستعرب الفرنسي جان جاك شميد عام 2005 تحت عنوان (كتاب الدعابة العربية) وأعادت دار نشر (أكت سود) الباريسية إصدارها مؤخرا، يطل علينا شميد بأنطولوجيا أخرى صدرت حديثا عن الدار نفسها بعنوان (قصص قصيرة وطرف ونوادر). ومع أن هدف هذا العمل -مثل سابقه- هو التسلية أولا، فإن شميد ينجح من خلال ذلك في مدّ قارئه الفرنكفوني بمعلومات لا تحصى حول المجتمعات العربية في القرون الوسطى، حكاما ورعايا، رجالا ونساء، شعراء ومثقفين، بخلاء وأغبياء. وكما يشير إليه عنوانها، تتألف الأنطولوجيا من طرف قصيرة -وأحيانا قصيرة جدا- جمعها شميد من كتب الأدب العربي الكلاسيكي التي تقرن الجدّ بالهزل بترتيب أو بدون ترتيب، وتتميز بتنوّع كبير في نبرتها. ولتسهيل ولوج الأنطولوجيا، لجأ شميد إلى رصف قصصها بطريقة بسيطة وفقا للشخصية التي تلعب الدور الرئيسي فيها (خليفة، حاكم، شاعر، بدوي..)، أو وفقا لموضوعها (الحب، الدين، المرأة..)، لكن بدون هاجس احترام تسلسلها التاريخي، مفضّلا المحافظة على جانبها الخليط والمتنافر. وفي الفصل المخصص للخلفاء، نقرأ قصصا تبين بخل المنصور وحكمة المأمون وعمر بن الخطاب وعبد الملك بن مروان، وقوة المعتصم الجسدية ونزاهته وكرمه، وفضائل علي بن أبي طالب، والعلاقة الإشكالية التي ربطت هارون الرشيد بوزيره جعفر البرمكي، وحنكة معاوية وخوف رعاياه منه. وفي الفصل المرصود للشعراء العرب، نستمتع بطرف تسلط الضوء على حِيَل أبي نواس للاستمرار في شرب الخمر، أو على فكاهة أبي دلامة، أو على الظرف الذي كتب امرؤ القيس فيه قصيدة (قفا نبكي) لحبيبته عنيزة، أو على السبب الذي يقف خلف بخل المتنبي. كما نطلع على طُرف تكشف جوانب مثيرة من شخصية كل من بشار بن برد والخوارزمي وأبو الهندي والمتلمّس الضبعي ونصَيب والعتّابي والشنفرى الأزدي والعباس بن الأحنف. وفي الفصل المخصّص للمثقفين العرب، يستحضر شميد قصصا طريفة يتجلى فيها السبب الذي دفع أبا الأسود الدؤلي إلى وضع أسس القواعد العربية، أو السبب الذي دفع الرازي إلى التوقف عن ممارسة الكيمياء وإلى دراسة الطب، أو كيف ولماذا فقد الزمخشري ساقه؟ أو كيف نال الأصمعي مرة ألف دينار بسبب بشاعته؟ كما نتعرّف في قصص أخرى على ظروف وفاة ابن المقفع، وذكاء المازني، وعلى ظروف إفلات عبد الحميد بن يحيى من قبضة العباسيين. ويعج الفصل المرصود للنساء بقصص مضحكة تارة ومؤثّرة تارة أخرى، كقصة هند بنت النعمان بن المنذر، وزرقاء اليمامة، أو قصة المرأتين اللتين تمكنتا من إذلال الجاحظ، الأولى بإظهار قصر قامته مقارنةً بطول قامتها، والثانية بتشبيهه بالشيطان. ولا ينسى شميد الحماقات والنكات المنسوبة بشكلٍ جائر إلى أبي سعيد قراقوش الذي حرره أسد الدين شيركوه -عم صلاح الدين الأيوبي- من عبوديته وعيّنه ضابطا في جيشه، ثم انتقل بعد وفاة مُحرّره إلى خدمة صلاح الدين فعيّنه قاضيا واعتمد عليه في إدارة مملكته. وقد تميّز بنزاهته وإبداعه في هندسة القلاع، ولكن سذاجته الظاهرة شكلت لفترة طويلة موضوع سخرية للمصريين وأوحت إليهم بنكات لا تحصى. ولا يسع قارئ هذه الأنطولوجيا عدم الضحك لدى اطّلاعه أيضا على المآزق التي يقع فيها المتطفلون، وعلى جميع الإهانات التي يتحمّلها الوصوليون بدون اكتراث لسد عطشهم للسلطة والمال، وعلى المناورات التي لا تصدق التي يلجأ البخلاء إليها لتجنّب صرف ولو فلس واحد على أنفسهم أو على معارفهم وللاستفادة من كرم الآخرين. كما سيفاجأ القارئ برحابة صدر بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين وبتقبلهم النقد أو السخرية من رعاياهم وبانعتاقهم من ممنوعات أخلاقية ودينية كثيرة، وبالتالي بمناخ الحرية والتسامح الذي كان سائدا داخل بلاطهم. لكن أكثر ما يشدنا في نصوص هذه الأنطولوجيا هو تسييرها القيَم الرائعة التي كانت سائدة عند العرب آنذاك، وأبرزها النبل والكرم وحسن الضيافة وحب الاستقامة والشجاعة والمغفرة عند المقدرة. أما المراجع الأدبية التي استقى شميد منها مادة أنطولوجيته فكثيرة، نذكر منها كتاب (نوادر من تراثنا العربي) لمحمد شوقي أمين (دار الثقافة الجديدة، القاهرة)، وكتاب (طرائف المضحكين من الملوك والشعراء والحمقى والمغفلين) (دار الإعلامي، بيروت)، وكتاب (الأجوبة المسقِطة) لابن أبي عون (دار عين للدراسات، القاهرة)، وكتاب (أحلى الحكايا.. طرائف من التراث العربي) لعبد الأمير علي مهنّى (دار الفكر اللبناني، بيروت)، وكتاب (نوادر دينية) لعبد المعين الملّوحي (دار المدى، دمشق). ولا يتوقف جهد شميد في هذه الأنطولوجيا عند جمع وترجمة ورصف قصصها، بل يمنحنا في خاتمتها حواشي غزيرة ومهمة نتعرّف فيها على سيرة شخصيات هذه القصص وعلى الظروف التاريخية التي نشطت فيها.