ابن العوام أعظم علماء عصره فهو مؤسس علم الفلاحة والزراعة والبيطرة، وأول من وضع موسوعة في النباتات ومكافحة الآفات، وأول من ابتكر ما يعرف الآن ب"التقويم الزراعي"، وطريقة الري بالتنقيط التي انتشرت في العصر الحديث. ولد أبو زكريا يحيى بن محمد بن محمد بن العوام الأندلسي، بمدينة أشبيلية ببلاد الأندلس في القرن السادس الهجري. ونشأ في أسرة ثرية كانت تمتلك ضيعة خاصة وضاحية سميت باسم هذه الأسرة "ضاحية آل العوام" بإحدى ضواحي أشبيلية على الضفة اليُمنى لنهر الوادي الكبير الذي يصبّ في المحيط الأطلنطي. وأحبّ الزراعة منذ صباه، وكان كثير التردد إلى زراعات أبيه، يتفقد أحوال العمال ويقلّب في الثمار، ويتأمل أطوار النبات. فلاحظ أبوه شغف ابنه الذي عرف بالإيمان والورع والنباهة والذكاء بحب الأرض والزراعة، فشجّعه على تحصيل المعارف والعلوم من مخطوطات الفلاحة المكتوبة باللغات العربية والفارسية وغيرهما، وذلك بعد أن أعانه على تحصيل القدر الكافي من علوم القرآن والفقه والحديث واللغة، وكذلك الرياضيات. وكان يقضى نهاره في نشاط عملي تطبيقي في زراعات أسرته، وليله في نشاط عقلي نظري في الاطلاع على الكتب والمؤلفات الزراعية والبيطرية. وساعده أبوه في الاتصال بأشهر علماء الأندلس في عصره والاستفادة من علومهم، وإن لم يكن معظمُهم متخصصاً في علوم الفلاحة أو فنون الزراعة، وهي عشقه الأول، ولذلك نشأ ابن العوام في هذا المجال نشأة عصامية. وكان ممن اطَّلع ابن العوام على مؤلفاتهم أبو الخير الأشبيلي الأندلسي، وابن الحاج الأشبيلي الأندلسي، ومحمد بن إبراهيم البصّال الأندلسي. كما درس على يد بعض علماء المشرق الإسلامي مثل ابن وحشية. وكان ابن العوام غزير الإنتاج والاكتشافات ولكن تسببت الهجمات الشرسة التي قام بها الأوروبيون في فترة الحروب على الأندلس في ضياع معظم مصنفاته. كما بذل علماء الغرب محاولات مستميتة لطمر منجزاته العلمية، وسطا البعض على اكتشافاته وانتحلها لنفسه. ولذلك لا يعرف العالم من مؤلفات ابن العوام سوى كتاب "رسالة في تربية الكَرم" أي العنب، و"عيون الحقائق وإيضاح الطرائق"، وكتاب "الفلاحة الأندلسية". والكتاب الأخير هو أشهر مؤلفاته، وقد استفاد الأوروبيون منه كثيرا، إذ يعد موسوعة زراعية جمع فيه خلاصات موثقة لما عرفته شعوب الأندلس ومصر والعراق والمغرب العربي في مجال الزراعة والبيطرة فقررّوه على طلاب العلوم الزراعية في جامعاتهم لعدة قرون. ويضيف: كان المستشرق الإسباني "كازيري" أول من نبّه في فهرسه إلى المخطوطات الكاملة لهذا الكتاب، وهى محفوظة في مكتبة "الإسكوريال"، ومن مظاهر الاهتمام العالمي بهذا الكتاب، قيام المستشرق الإسباني "بانكويري" بنشره بلغته العربية، وترجمته إلى الإسبانية في عام 1803م. كما ترجمه المستشرق الفرنسي "كليمان مولي" إلى الفرنسية ونشره في عام 1865م. ويتضّح من الاطلاع على هذا الكتاب أن ابن العوام كان عالماً موضوعياً دقيقاً، يعتمد على المراجع وينسب الأقوال لأصحابها، وإذا عارض رأياً قدّم أدلته التي ترجّح ما يراه هو. وقد جمع ما توصّل إليه من معارف وعلوم في المجالات الزراعية بين دفتي هذه الموسوعة التي لم تشتمل على العلوم الزراعية فقط، وإنما اشتملت على العلوم البيطرية كذلك. كما يحتوي الكتاب نتائج العديد من التجارب التي أجراها ابن العوام في علم الأراضي، وعلم المياه والري، وتجارب في علم مكافحة الأمراض والآفات، وتجارب في علم البستنة، وتجارب في علم البيطرة، وتجارب في علم السلالات والتكاثر. وقسّم ابن العوام كتاب "الفلاحة الأندلسية" إلى جزئين، يقع أولهما في ستة عشر باباً، ويقع الثاني في ثمانية عشر باباً. وخصّص الأول لمعرفة أنواع الأراضي والأسمدة والمياه والبساتين، واتخاذ الأشجار والثمار، ثم شرح طرق تطعيم الأشجار، وتركيب الأشجار بعضها في بعض، وأوقات وكيفية اختيار الأقلام ثم تقليم الأشجار. كما تحدث في "الصناعات الغذائية" القائمة على الفاكهة والخضراوات، وكذلك الأعمال الحقلية التي تُعرف الآن ب "التقويم الزراعي"، وإصلاح الأراضي بعد كلالها، والمحاصيل والزراعات التي تناسب كل نوع منها. كما تحدث في المحاصيل ودراستها، واختيار مواضع البنيان وقت قطع الخشب ومعاصر الزيت. وخصص الأبواب الأربعة الأخيرة للبيطرة، فتحدّث عن الحيوانات الزراعية وطرق تربيتها وأمراضها، سواء حيوانات المزرعة أم الحيوانات والطيور الداجنة بالمنازل، ثم اقتناء الكلاب للصيد والزرع. وكان ابن العوام أول من تكلم عن أن "النباتات كواشف للبيئة" أو ما يُعرف هكذا في العلم الحديث، كما قدّم دراسة مبتكرة فيما يعرف الآن ب "التقويم الزراعي"، ووضع أسس فن وعلم "تركيب النباتات" أو فن تطعيم النباتات، وكذلك هو واضع اللبنات الأولى لانتقاء الصفات الوراثية عن طريق التهجين بين أنواع النباتات وبعضها البعض والعديد من التطبيقات الزراعية الحديثة. وحرص ابن العوام على أن يحشد في كتابة عدداً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحِكم والطُرف.