بقلم: نبيل الفولي أكبر الهواجس التي تطارد السلطة الحالية في مصر، سواء على مستوى الداخل أم الخارج، هو اكتساب الشرعية التي ما فتئت تردد أن الشعب هو مانحها ومانعها، وإزالة الموانع التي تقف في وجه هذا الهدف الذي يبقى أي نظام حاكم من دونه بلا غطاء يسوّغ وجوده في موقع السلطة أصلا. وقد حاولت (خريطة الطريق) -التي وضعها نظام 3 جويلية لفترته الانتقالية- أن ترسم المسار الذي يوصلهم بأشخاصهم -بغض النظر عن الاستحقاق أو الأهلية- إلى هذه المشروعية. وكان وضع دستور جديد أو تعديل دستور ثورة يناير 2011 -الذي اقترع عليه في ديسمبر عام 2012 تعديلا جذريا- جزءا مهما من هذا السعي نحو اقتناص مشروعية معلقة في الهواء، لأن أصحابها معتقلون، ومن يحاول انتزاعها منهم يجد دون ذلك صعوبات هائلة، ليس أقلها امتلاء الشارع المصري بالتظاهرات العارمة العنيدة منذ بدأت البلاد مسارها الحالي. وإذا وقفنا تحديدا عند وثيقة الدستور الجديد -الذي أنجز مؤخرا وينتظر اقتراع الشعب المصري عليه- فسنجد أنه في حالة نجاح نظام 3 جويلية بإقراره، خاصة إن اكتسى بكسوة الاقتراع (الحر النزيه) ولو شكليا عن طريق حشد القوى الشعبية الميتة والصامتة في لجان الاقتراع كما حدث في مرحلة الإعادة من الانتخابات الرئاسية في جويلية 2012، فسيمثل خطوة تنعش آمال النظام في البقاء، وقد تدفعه إلى التمسك بمواقعه لفترة أطول مما يتوقع خصومه. ظاهر من عنوانه ولعل الوقوف في هذه السطور القصيرة مع ديباجة الدستور أو مقدمته يكفي لمعرفة نيات النخبة تجاه مستقبل مصر، كما يشي بهوية هذه النخبة وملاءمتها أو عدم ملاءمتها للقيام بمهمة كبيرة مثل وضع دستور لدولة محورية وذات تأثير كبير في إقليمها الجغرافي على الأقل. ونلاحظ أن كاتب هذه الديباجة هو شاعر العامية المعروف سيد حجاب، مع تعديلات مهمة أدخلت عليها من ديباجة أخرى قدمها صلاح فضل، وقد شهدتُ للأول منهما قبل حوالي ربع قرن من الزمان موقفا ذا دلالة في هذا السياق، فقد دعته إحدى الأسر الطلابية بجامعة القاهرة لإلقاء بعض أزجاله في رحاب أحد أكبر معاقل اللغة العربية في العالم، وهي كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، في عهد عمرت فيه بفطاحل أهل العلم في العلوم الشرعية واللغوية، ومما سمعت الشاعر الزاجل يلقيه على مسامعنا -نحن طلاب ذلك العهد- قصيدة افتتحها بقوله الذي ما زالت ذاكرتي تحتفظ ببعضه إلى الآن (ملعون من يظلم الناس ويريد يكونوا عبيده). وقد علق على هذه الاحتفالية عبد الواحد علام -رحمه الله - أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بالكلية حينئذ في محاضرة تالية، ووصفها بأنها فضيحة كبيرة أن تستضيف دار العلوم شاعرا من شعراء العامية يردد بين جنباتها أزجاله الشعبية، وهي المعهد العلمي الأصيل الذي يحمل لواء العربية الأكبر في هذا العصر! على أي حال، وكما يقولون فإن (الموضوع ظاهر من عنوانه)، والتوغل مع الديباجة يثبت هذا بجلاء. وطن بلا أمة فشلت الديباجة الطويلة نسبيا في تحديد هوية منضبطة للدولة مع سعيها إلى هذا، وبدا أننا أمام كيان سياسي عائم ومتشرذم بين عدد كبير من الانتماءات التي لا يبدو بينها توفيق، وذلك أن الصياغة باعدت بين دوائر الانتماء المصري لمحيطها الجغرافي والثقافي والحضاري. فهي في موضع (تاج على رأس أفريقيا)، وفي موضع آخر بعيد (جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، تنتمي إلى القارة الأفريقية، وتمتد حدودها في القارة الآسيوية)، وفي موضع ثالث تقول الديباجة (انفتحت مصر على أمتها العربية وقارتها الأفريقية والعالم الإسلامي)، وكذلك فإن (أزهرها الشريف منارة للعالم الإسلامي). ويبدو الانتماء الإسلامي هنا انتماء خدمات جليلة جاد بها المصريون على تلك الشعوب، ف (قدمنا الشهداء في سبيل الله، ونشرنا رسالة الحق وعلوم الدين في العالمين)، وكأننا لسنا منهم وليسوا منا على الأصالة! ويبدو هذا الانتماء كذلك مجرد مرحلة تاريخية، وليس هوية كما يفهمه أصحابه، ولا حتى كما يقدم الإسلام نفسه للناس. كما بدا الدستور الجديد -من خلال ديباجته كذلك- وثيقة لأرض أكثر منه وثيقة لدولة، فقد تحدث كثيرا عن هذه الرقعة الجغرافية التي يطلق عليها اسم (مصر)، وأنها مفترق طرق العالم (ومواصلاته البحرية واتصالاته)، وحين أراد أن يتكلم عن الأمة القاطنة لهذه الأرض تكلم عن تاريخ أكثر مما تكلم عن واقع، وتكلم عن زعامات وطنية لا عن شعب. ولابد من ملاحظة هذا الميل الشعوري أو اللاشعوري إلى تمجيد التاريخ لوأد الحاضر ورده إلى الصورة النمطية المعروفة للدولة المصرية الحديثة من أيام محمد علي وإبراهيم باشا اللذين فاجأتنا الوثيقة بذكر اسميهما وإنجازاتهما. فمع أن اللحظة الراهنة في مصر 25 يناير كان من الممكن أن تكون أنصع من كثير من صفحات تاريخنا القديم والحديث، وأن الانقلاب جاء لوأدها، فإن الواقع ذاب أمام (التاريخ المقدس)، لأنه يؤكد صورة الحاكم المسيطر والأمة الخاضعة. ولا يعني هذا أننا نقلل من قيمة التاريخ باعتباره التعبير العملي عن الجذور وأصول الهوية، ولكننا نرصد جريمة التوظيف المنحرف للتاريخ وتحويله إلى سجن يطارد الواقع، ويحذره من أن يخرج عن السياق المعتاد للعلاقة بين السلطة والأمة. اغتيال ثورة يناير لم تذكر الديباجة أيضا ثورة 25 يناير -التي اتفقت أطياف الشعب على أهميتها وروعتها وأنها كانت هبّة في وجه الاستبداد- إلا متعانقة مع أحداث 30 يونيو وتطوراتها، وحين ذكرت الشهداء لم تحدد كنههم، ولا متى سقطوا، ومن الذي اغتال نفوسهم الطاهرة. وهذا اختطاف شنيع للحدث الأصلي الفريد الذي أنجزته جموع الشعب المصري في 2011 لصالح حدث مصطنع خرجت فيه حشود هائلة من المصريين كما لا ننكر، لكن الأيادي المريبة التي رتبته، والتوظيف الطائفي الذي غذاه، والعجز عن تكراره، كل هذا من شهود الصدق على الاختلاف الكبير بين ثورة يناير وأحداث آخر يوم من جوان الماضي، وما ترتب عليها من الإطاحة بالشرعية ومن يمثلونها. كما وقعت الديباجة في خطيئة فكرية وعلمية حين قالت عن المصريين القدماء (وتطلعت أبصارهم للسماوات قبل أن تتصل السماء بالأرض)، وهي ترجمة عن جانب من موقف المدرسة الاجتماعية الغربية من الدين، وأن الإنسان تطور من اللادين إلى عبادة الظواهر الكونية التي يجد منها نفعا أو يخشى منها ضرا، ثم انتقل إلى عبادة آلهة كثيرة لها إله كبير، حتى انتهى في آخر الطريق إلى التوحيد. وما أضافته العبارة من أن المصريين عرفوا الدين قبل أن ينزل من السماء وحي لهداية الأرض هو تلفيق وجمع غريب بين القول بالفكرة السابقة والاعتراف بوحي الله المنزل على أنبيائه. تعليقات على اللغة وقد حرمت وثيقة بهذه الأهمية والخطورة من الرصانة ومتانة الصياغة، فبدت الركاكة اللغوية ظاهرة جلية في ديباجة الدستور الجديد، ومن عيوب الصياغة فيها مثلا لا حصرا: - التكرار بلا داعٍ وما يتبعه من ثقل صوتي، ومنه قولهم في أول عبارة في الدستور المقترح (مصر هبة النيل للمصريين، ومصر هبة المصريين للإنسانية)، فمن ثماني كلمات اشتملت عليهما الجملتان تكررت أربع كلمات من أصل واحد: مصر-المصريين، وكلمتان بذاتهما: هبة، مع ما يمكن أن تلاحظه من الغموض والعمومية وعدم التحديد في الجملة الثانية. - ومن عيوب الصياغة كذلك: علو نبرة الخطابة والإنشاء، وهي تهمة شهيرة طالما رمي بها الإسلاميون ومفكروهم، بل تجرأ بعض زعماء العلمانية في بعض البلدان على اتهام القرآن الكريم نفسه بها! (حاشا لله). وقد أدى هذا العيب الأسلوبي إلى الاستغراق في تفاصيل ومعلومات لا موضع لها في وثيقة تتحدد بها صبغة الدولة وصفتها وهويتها، ومن أمثلة ذلك قولهم (في أرض مصر شب كليم الله، وتنزلت عليه الرسالة في طور سينين، واحتضن المصريون السيدة العذراء ووليدها، وقدموا آلاف الشهداء دفاعا عن العقيدة الحقة لكنيسة السيد المسيح، ثم انفتحت قلوبنا لنور الإسلام فاعتنقناه، وقدمنا الشهداء في سبيل الله، ونشرنا رسالة الحق وعلوم الدين في العالمين). ويبدو أن صاحب الصياغة كان يطارده هنا نوعان من المخاوف: الأول: الاتهام بتضخيم دور مصر المسيحية، فأضاف أن مصر الإسلامية قدمت شهداء كما ذكر ذلك لمصر المسيحية، ومن المؤكد أن الفرق شاسع وضخم بين الدورين الحضاريين لمصر المسيحية ومصر الإسلامية، مع الإيمان بأن الثبات المسيحي المصري في وجه الضغوط والاضطهادات الرومانية كان مثالا متميزا للثبات على الرأي والمعتقد. ثانيا: وصف الثبات المسيحي بأنه كان (دفاعا عن العقيدة الحقة لكنيسة السيد المسيح)، ولم يبين هذه الصحة من وجهة نظر من تكون! ومع هذا فكأنه في عبارته السابقة قد محا المرحلة المسيحية بعبارة توحي بأن مصر الإسلامية غطت على كل ما ينتمي إلى مصر المسيحية ومحته تماما. - واحتوت ديباجة هذه الوثيقة كذلك عبارات يظن القارئ لأول وهلة أن لها معنى، ولكن عند فحصها والنظر فيها يجد أنها خالية من معنى يمكن فهمه، ومن ذلك قولهم عن دستورهم (ونعالج فيه جراح الماضي من زمن الفلاح الفصيح القديم)! مهما يكن، فإن ما في داخل مواد الدستور المؤسف -في محتواه وملابسات صناعته- من مصائب أكبر بكثير مما ورد في الديباجة، وإن كانت مؤدية إليها في نهاية الأمر. * أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين إسلام آباد باكستان من جنسية مصرية