مازالت البلديات الساحلية الواقعة بالجهة الشرقية لولاية بومرداس تعيش العزلة و التهميش اللذين فرضا عليها عنوة من قبل المسؤولين منذ عشريات مضت بدأ أسوؤها مع مطلع التسعينيات حيث اتخذت الجماعات الإرهابية جبالها الوعرة قواعدا خلفية لنشاطاتها الدموية و من ممتلكات سكانها غنائم حرب لم يكونوا طرفا فيها و لكنهم عاشوها بكل تفاصيلها فلم ينالوا منها سوى الخوف و الرعب و التقتيل و عدم النوم. سنوات قليلة كانت كافية لتعود كواحدة من أجمل المناطق السياحية في الجزائر إلى نقطة الصفر بعدما أغلقت الكثير من المؤسسات الاقتصادية أبوابها خوفا من بطش الجماعات الارهابية التي أحرقت بدورها الكثير منها على غرار مصنع الأحذية ببلدية دلس مما أحال الآلاف من العمال على البطالة فحتى المستثمرين الذين علقت المنطقة عليهم أملها للخروج إلى بر الأمان عزفوا بدورهم عن النشاط بها بعدما أجهضت رائحة البارود و صور حرق و نهب الممتلكات نواياهم في الاستثمار بها لتحجم بدورها السلطات و على اختلاف مستوياتها في إدراج مشاريع إنمائية من شأنها أن ترقى بهذه البلديات إلى مستوى ما تكتنزه من إمكانيات بحجة تدهور الوضع الأمني ،فحتى بعض المشاريع التي أنجزت هنا و هناك لم تتعد الهياكل ذات المنفعة العامة كالمؤسسات التربوية و الصحية التي حفظت في كثير من الأحيان ماء وجه المسؤولين زموري.. أثار زلزال 2003 لا تزال بادية بدأت رحلتنا إلى المناطق الساحلية الشرقية لبومرداس من عاصمة الولاية عبر الطريق الوطني رقم 24 الذي يخترق التلال و الجبال وسط ديكور امتزجت فيه خضرة الغابات بزرقة البحر مشكلة صورة غاية في الجمال شوهتها التجمعات السكنية المتناثرة هنا و هناك و الأحياء السكنية التي أنشئت عقب الزلزال الذي ضرب المنطقة سنة 2003 و رافق هذه المحتشدات السكانية إنشاء عشرات المحلات على طول هذا الطريق بشكل فوضوي يفتقر إلى الطابع الجمالي خصوصا بأحياء المرملة و الكرمة و صفصاف نابي .و أسهم غض المسؤولين البصر في استفحال هذه الظاهرة و أول ما يستوقفنا في هذه الجولة بلدية زموري التي ارتبط اسمها بواحدة من أقوى الكوارث الطبيعية في تاريخ الجزائر فبضع ثوان من اهتزاز الأرض ذات أربعاء من سنة 2003 كانت كافية لتقلبها رأسا على عقب و ما زالت آثار الدمار بادية في المدينة التي لم تستطع الأحياء السكنية الجديدة التي بنيت خصيصا لاعادة المنكوبين ،أن تعيد لها سمعتها السياحية التي طالما اشتهرت بها قبل التسعينيات،فاهتراء شبكة الطرق و انعدام تهيئة الأرصفة و أثار المحلات الفوضوية التي بنيت بالصفائح القصديرية جعل منها نموذجا لفوضى العمران زادها عدم انتهاء الكثير من الخواص في اتمام سكناتهم بحجة عدم كفاية الإعانات التي رصدتها لهم الدولة و المقدرة ب 100 مليون سنتيم و ما يثير الاستغراب بهذه البلدية و التي صنف أغلبية وعائها العقاري ضمن منطقة التوسع السياحي أنها لم تستفد لحد الساعة من مشاريع سياحية ضخمة عدا استثمارات بعض الخواص التي تعد على أصابع اليد الواحدة وحتى غابة الساحل بأشجارها دائمة الخضرة و رغم شساعتها ما زال استغلالها يقتصر على بعض التجار الذين أقاموا محلات لبيع الأكل الخفيف يقتصر عملهم في أغلبية الأحيان مع الأزواج الذين يقصدون الغابة لاشباع غرائزهم بعيدا عن الأنظار و هو ما حرم العائلات من التردد عليها و الاستجمام بها و تعود الحياة الى هذه الغابة مع حلول فصل الحر،حيث تنتعش الحركة بها و لاسيما أنها منفذ الى واحد من أجمل شواطىء الولاية كما تقام بها مخيمات صيفية و تقبل اليها أفواج كشفية من مختلف أرجاء الوطن بغرض التخييم ،الأمر الذي يكسر الصمت الرهيب الذي تسبح فيه طيلة أيام السنة و تبقى بلدية زموري تنتظر المشروع الاستثماري الذي يضم قرى و شققا سياحية و مطاعم و فنادق فاخرة كان من المفروض أن تنجزه مؤسسة ترقية السكن العائلي بشراكة أجنبية و لكنه لم ير النور لحد اليوم لأسباب تظل مجهولة رأس جنات.. بلدية غنية تعيش سنوات عجاف محطتنا الثانية في هذه الجولة كانت بلدية رأس جنات أو “ جناد “ كما يحلو لسكانها تسميتها فهي تأسر الزائر بجبالها الشاهقة التي تعانق زرقة البحر المتوسط ،اشتهرت بخليجها الصغير و مياهه الهادئة أغلبية أيام السنة و الذي كان و لعدة سنوات ملجأ للأثرياء و أعلى المسؤولين و السياح الأجانب الذين اتخذوا من هذه المدينة الصغيرة مكانا لاقامتهم الصيفية فكانت المصائف التي ابتاعوها منتصف الثمانينات بالدينار الرمزي على حساب السكان مأوى لهم من صخب العاصمة و ضجيجها فكان قدومهم إنعاشا للحركة التجارية بها و دخلا اضافيا للسكان في ظل نقص المؤسسات الاقتصادية.. أما اليوم فباتت ذكريات للسمر بعدما حلت بها لعنة الارهاب معلنة بداية سنوات عجاف رفعت فيها السلطات الولائية يدها عن المنطقة بصفة شبه كلية بعدما حرمتها من المشاريع الانمائية التي أسهمت في تردي الأوضاع الاجتماعية للسكان اللذين تبدو عليهم و بصورة جلية مظاهر الفقر و العوز ،فحتى الفلاحة و الصيد الذين ينشط بهما أغلبيتهم باتا اليوم غير كافيين لتلبية الاحتياجات و حتى محطة توليد الكهرباء و المحجرة التي ظلت تنهش حيالها لعشرات السنين حتى أصحابها أموالا طائلة لم ينل منها السكان سوى الغبار و التلوث الذي أصابهم بأمراض الصدر و الربو التي تحالفت مع الرطوبة الشديدة لتنهك قواهم . و أما مشروع الميناء و الذي كلف أغلفة مالية ضخمة و توشك أشغاله على الانتهاء فقد بات مصدرا لانتقادات الصيادين الذين أكدوا أن به خطأ تقنيا فادحا يؤثر على نشاطهم، مؤكدين أن رمال البحر التي تجلبها التيارات البحرية تغمر مدخل السفن مما يشكل خطرا في دخولها أو خروجها منه..و رغم اللمسة الجمالية التي أضفاها الميناء الجديد بعد عملية تهيئة الأرصفة المؤدية الى المدينة الا أن حالة الطرق المزرية و انعدام التهيئة بأغلبية الشوارع و البنايات غير المتناسقة للمحلات و المساكن الخاصة المتراصة جنبا الى جنب على طول الطريق أفقدها صفة المدن الساحلية فحتى المطاعم المعدودة المتخصصة في السمك المتراصة بالقرب من الميناء لم تستطع أن ترقى بالسياحة في المنطقة لاعتمادها على الطرق التقليدية و افتقارها الى الوسائل و حتى الطابع الجمالي و لعل المشكل الكبير الذي تتخبط فيه البلدية هو الانتشار الفادح للبطالة مما جعل شبابها لا يفكر سوى في الهجرة أو الحرقة كما تشكو البلدية من النقص الكبير لمشاريع السكن الاجتماعي حتى ظلت المجالس الشعبية المتعاقبة على تسيير شؤون البلدية عاجزة عن تلبية الطلبات المتزايدة في هذا الخصوص ،و حتى برنامج السكن الريفي الذي انتهجته الدولة في السنوات الأخيرة واجهته العديد من المشاكل في هذه البلدية بسبب افتقار السكان الى عقود ملكية العقار و الذي يعتبر شرطا أساسيا للاستفادة من اعانة الدولة تعزيزات و حواجز أمنية تعيدنا الى سنوات الجمر تتواصل رحلتنا بالمنطقة مرورا بقريتي “ عبد الوريث “ و “ أولاد بونوة “ اللتين نال منهما التهميش و الاقصاء عبر الممهلات التي أنجزت به و تستوقفنا على طول هذا الشطر التعزيزات الأمنية المشددة التي تترجمها عدد من الحواجز الأمنية و الثكنات العسكرية و المتاريس الموضوعة على طول الطريق لتعيدنا هذه الصور الى سنوات التسعينيات التي كان منطق الجماعات الارهابية هو الغالب في المنطقة خصوصا بقرية ساحل بوبراك التابعة لبلدية سيدي داوود و التي التصق اسمها بهذه الجماعات التي اقترفت أبشع العمليات الاجرامية و ظلت لحد الساعة تفتقر الى المنشأت ذات المنفعة العامة كثانوية أو اكمالية توفر على تلاميذها عناء التوجه الى مؤسسات السوانين أو دلس للتمدرس و عبر طريق ضيق و مهترىء تصل الى تاقدامت المنطقة السياحية التي خنقتها الأحياء القصديرية التي انتشرت كالفطر منذ بداية التسعينيات بعدما استقرت بها مئات العائلات التي فرت اليها هروبا من بطش الارهاب لتصبح عملية اعادة اسكان نزلائها من أثقل الملفات على مستوى الولاية .. كما يشد انتباهك هيكل فندقين توقفت أشغال انجازهما منذ عدة سنوات لتردي الظروف الأمنية من جهة و لعجز أصحابها ماديا من جهة أخرى فيما لا يحرك المسؤولون ساكنا لاتخاذ الاجراءات اللازمة خصوصا و أن الفندقين يحتلان موقعين استراتيجيين و يمكنهما المساهمة في الرقي بالقطاع السياحي بالمنطقة التي تفتقر الى الفنادق و بالخصوص الراقية منها رغم ما تكتنزه من امكانيات طبيعية.. غلق كبرى المؤسسات الاقتصادية يغرق بلدية دلس في الفقر و على بعد بضع كيلومترات تتراءى مدينة دلس العريقة بتراثها التاريخي و الحضاري و التي أضحت اليوم من أفقر البلديات بالولاية بعدما أغلقت مؤسساتها الاقتصادية أبوابها مسرحة آلاف العمال بسبب تدهور الأوضاع الأمنية على غرار مصنع الجلود و الأحذية الذي كان يصدر منتوجاته الى اسبانيا و ايطاليا و أمريكا قبل أن يحرق بداية السبعينيات من قبل مجموعة ارهابية ليظل مهملا رغم استتباب الأمن. و الحال نفسه بالنسبة لمصنع البلاستيك و مؤسسة تصبير السمك التي أغلقت أبوابها لصعوبات مالية قبل 03 سنوات في حين كان بالامكان بيعها لعمالها الذين عرضوا ذلك و في ظل حرمان البلدية من المؤسسات الاقتصادية سجلت أعلى نسب البطالة ما دفع بالكثير من الشباب الى امتهان مهنة نهب الرمال من شواطىء تاقدامت و ساحل بوبراك و ليصالين و الذي بات اليوم يوفر لهم قوت يومهم كما توفر لهم الغلاف المالي للهجرة السرية التي باتت حلما يتطلع اليه أعلبية شباب المنطقة و لاسيما أن دلس اليوم أصبحت تستقطب الراغبين في الحرقة باتجاه مايوركا الاسبانية و التي تفصلها عن دلس 48 ساعة على متن قارب عادي بتكلفة تتراوح ما بين 05 و 15 مليون سنتيم و يغتنم الحراقة وقت دخول الصيادين البحر للخروج في هذه الرحلة التي تباع أنها ناجحة بنسبة كبيرة .و لم تستطع بلدية دلس رغم الامكانيات التي تتوفر عليها من استقطاب المستثمرين بعدما حرمت من المشاريع الاقتصادية طيلة السنوات الماضية يضاف حرمانها من المشاريع السكنية التي تظل شبه منعدمة إذا ما قورنت بعدد الملفات المودعة و التي تعد بالآلاف .و تعكس وضعية الطرق المهترئة و انعدام تهيئة الشوارع و المحلات التي يعود تاريخ أغلبيتها الى الحقبة الاستعمارية حجم الإقصاء الذي نالته هذه البلدية و لامبالاة المسؤولين بإمكانياتها. حياة . ف