يعد الشاذلي بن جديد، الذي شيعت جنازته أول أمس بمقبرة العالية بالعاصمة، الرئيس الأول الذي فتح نافذة الديمقراطية على الجزائريين، بعدما أقر تعديل دستور الجزائر، والخروج من سياسة الحزب الواحد، إلى عهد التعددية السياسية.ويتزامن رحيل الشاذلي بن جديد مع مرور 24 سنة على أحداث الخامس من أكتوبر 1988، التي كان خلالها بن جديد في آخر ثلاث سنوات من حكمه الذي بدأه عام 1979. ويعرف الشاذلي أنه الرئيس الذي تحمل مسؤولية أحداث أكتوبر 88، باعتبار أنه الرئيس و المسؤول الأأول عن الأفلان الماسك بزمام الحكم انذاك، حيث حيث وضعت، الجبهة في مأزق كبير، فتقرر بعد رحيل الشاذلي عن الحكم تغيير قيادتها بشكل مكن عبد الحميد مهري من اعتلاء أمانتها العامة، دون أن يدري رجال السرايا ولا الأفالانيون، أنفسهم، أن المسار آيل للتغيير بدرجة قصوى، مع ظهور بوادر التعفن السياسي والإرهاب، واستقالة الشاذلي بن جديد من رئاسة البلاد، ووقف المسار الانتخابي ، ولا أحد فهم، كيف تجرأ مهري وشن حملة عنيفة على الجيش واضعا الآفلان في موضع المعارض لسياسة السلطة، التي هي سياسة مؤسسة عسكرية كانت في نظره «تنشط دون غطاء سياسي» في علاجها الأزمة الأمنية. الشاذلي و مفاجأة الحكم بعد صراع نشب بين بوتفليقة الذي كان وزيرا للخارجية ومحمد الصالح يحياوي مسؤول الافلان، من اجل خلافة بومدين بعد رحيله عام 78، جيئ بالشاذلي من وهران لتولي مقاليد الحكم وهو عقيدا في الجيش وأصبح بعد وفاة هواري بومدين رئيسا للجزائر خلافا لما كان يعتقد وقتها أن بومدين سيخلفه في كرسي الرئاسة إما عبد العزيز بوتفليقة أو محمد صالح يحياوي، وهما من كبار ساسة البلد، وقادة الحزب الحاكم،جبهةالتحريرالوطني.وتميزت فترة حكم الرئيس الشاذلي بانفتاح اقتصادي كبير، لم تعهده البلاد التي كانت تسير في فلك المعسكر الشرقي. ورافق التوجه الاجتماعي للشاذلي بن جديد في ذلك الوقت طموحا لم تبرز ملامحه بوضوح الا في التسعينيات، وهو ضرورة تنويع «المتعاملين» مع الجزائر في الاسواق والدولية وعلى مستوى التكتلات الإقليمية، وكان بن جديد في هذه النقطة باحث عن تعاملات قطبية من ذلك النوع الذي يبعد الجزائر عن «تحكم الاتحاد السوفياتي فيها»، وتداعيات «الغلاسنوست « سياسة غورفاتشوف التي دمرت المعسكر الشرقي من الداخل في ظرف سبع سنوات. ومنذ ذلك الوقت بدات الجزائر، التي عرفت مذاق الازمة الاقتصادية حتى النخاع، تنوع مشترياتها من القمح الى السلاح، وفق «عقلية» خاصة بدأت ب»فرض« تحول اجتماعي غير عادي بكل المقاييس انطلاقا مما يمثله مسلسل امريكي قرب الشعب من الاستهلاكيات وعرفه بها، موازاة مع ما كان يتلقاه ميناء الجزائر من سلع، لم تلصق في النهاية «ايتيكيت» الليبيرالي لاسم الشاذلي بن جديد. إنفجار .. كما تميزت فترته بانفجار اجتماعي وقع في شهر أكتوبر من عام 1988، تبعه انفجار سياسي أتى على الأخضر واليابس في الجزائر الفتية وقتها.وأدت الأحداث المتسارعة في الأيام الأولى من شهر أكتوبر من تلك السنة، إلى تغيير جذري في حياة الجزائريين، حيث انتقل البلد سياسيا من حالة الأحادية الحزبية (حزب جبهة التحرير الوطني) إلى عهد التعددية الحزبية التي أقرها دستور فيفري 1989.ومعها ظهر إلى العلن 60 حزبا سياسيا من مختلف المشارب والتوجهات، أبرزها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الذي سيكون له شأنا وسيكون فوزه نهاية عام 1991 بالانتخابات البرلمانية سببا في إنهاء حكم الرئيس الشاذلي بن جديد.فصبيحة الحادي عشر من جانفي 1992، لم تكن عادية على الإطلاق، وبحلول المساء، وفي حدود الساعة الثامنة مساء بتوقيت الجزائر، بثت نشرة «الثامنة» على التلفزيون الجزائري، مشهد الرئيس الشاذلي بن جديد وهو يعلن تنحيه من المنصب.ولم يكتف الرئيس الشاذلي بالاستقالة بل أعلن عن حل البرلمان أيضا، وهو ما أدخل البلاد بسرعة في مرحلة فراغ دستوري وقانوني. مذكرات .. من المنتظر أن تكشف مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد العديد من القضايا الهامة التي لا تزال مبهمة بالنسبة للجزائريين، منها قضية محاكمة العقيد شعباني، وقضية متابعة حركة مصطفى بويعلي المسلحة في الثمانينات.كما ينتظر أن تجيب المذكرات على جوانب مهمة في فترة حكم الشاذلي منها ظروف وطريقة توليه الحكم في الجزائر سنة 1979، وإبعاده لرموز الحكم في فترة بومدين، وكيفية تسييره للبلاد، وأحداث 5 أكتوبر، وما تبعها من انفتاح سياسي، وظروف وأسباب استقالته، وما تبعها من توقيف المسار الانتخابي، وأسباب التزامه الصمت طيلة الفترة التي تبعت استقالته. وكانت تصريحات الشاذلي بن جديد قد أحدثت ضجة كبيرة حين تطرق إلى قضية العقيد شعباني، وحين أطلق تصريحات لباحثين يابانيين مفادها أن الجزائر كانت ستتجنب الوضع الخطير الذي تعيشه اليوم لو قبلت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 1991»، حيث يعتقد الشاذلي بن جديد أن منع وصول الإسلاميين إلى الحكم هو الذي «فتح أبواب جهنم على البلاد«..وستبقى الاصلاحات الاقتصادية التي بادر بها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رغم بعض الانتقادات«الاكثر شجاعة وعمقا« في تاريخ الجزائر لانها وضعت حدا ل30 سنة من اقتصاد ممركز حسبما أكده اقتصاديون. ويرى الاقتصادي الجزائري عبد الحق لعميري أن «الاصلاحات الاقتصادية التي تمت مباشرتها في عهد الشاذلي بن جديد تعتبر شجاعة وعميقة باعتبار الوضع الذي كان سائدا انذاك«. واشار يقول أمس، أن مساعدي الرئيس الراحل الشاذلي الذي ترأس البلاد خلال 13 سنة (فيفري 1979-جانفي 1992) كانوا يعتبرون أن الاستثمار المفرط والتسيير السييء والمركزية المفرطة عوامل تؤدي الى مأزق«. وقد ارتكز المسعى الاقتصادي لهذا الفريق على اساس هذا التشخيص بحيث تمثل أهم انجاز كما قال في التخلي عن التصنيع الذي كان يتميز بسوء تسيير في تلك الفترة والتوجه نحو تنويع افضل للاقتصاد. وأضاف أنه «اذا ما واصلنا مسار التصنيع كنا سنجد انفسنا بديون باكثر من 100 مليار دولار وقد تكلف عمليات التسديد اليوم لميزانية الدولة خمس مرات هذا المبلغ». وأكد الدكتور لعميري أن انهيار اسعار النفط سنة 1986 أدى بالجزائر الى تجديد تمويلها على المدى القصير وفي «ظروف سيئة» لأن صندوق الضبط لم يكن متواجدا في تلك الفترة«إن الاخطاء التي ارتكبت خلال الاصلاحات كالاستدانة على المدى القصير وتطبيق مخطط التعديل الهيكلي الذي اثقل المالية العمومية كان من الممكن استدراكها في نظره. لقد عرف الاقتصاد في عهد الشاذلي ووزيره الاول السيد مولود حمروش تصحيحات جدية فيما يخص التركيز على المركزية و التصنيع وفسح المجال لاقتصاد متفتح واعد تفادت الجزائر بفضله الكثير من المحن. ومن جهته اعتبر المستشار الاقتصادي المستقل عبد الرحمان بن خالفة أن عهدة الشاذلي كانت اكثر الفترات كثافة في تاريخ البلاد الاقتصادي لانها سمحت باحداث قطيعة بين نمطين متعارضين للتسيير ورقي اجتماعي بدون سابقة.وأكد إن التفتح على اقتصاد السوق في نهاية الثمانينات الذي شرع فيه في ظرف مالي دولي صعب كان الاصلاح «الاكثر جرأة« في تاريخ البلاد. وذكر المندوب العام الاسبق لجمعية البنوك والمؤسسات المصرفية «اصلاحات الجيل الأول« التي شرع فيها فريق الشاذلي ابتداء من 1988 منها اعداد القانون الأول المتعلق بالبنوك و منح المؤسسات العمومية استقلالية التسيير وبروز مفهوم رؤوس الاموال التجارية وغير التجارية. كيف وصل إلى الرئاسة؟ لم يكن المرور الى الرئاسة في الجزائر أمرا سهلا مع الصراع الذي كان في السلطة انذاك، إذ يقتضي بحصول المرشح على دعم المؤسسة العسكرية. وقبل نهاية عهدة رابح بيطاط احتدم الصراع بين شخصيات في جبهة التحرير الوطني والمؤسسة العسكرية حول الرئيس المرتقب . وكان التنافس قائما على أشده بين محمد الصالح يحياوي أحد قادة حزب جبهة التحرير الوطني وعبد العزيز بوتفليقة رئيس الديبلوماسية الجزائرية في عهد هواري بومدين , وكلا المتنافسين لم يكونا يملكان أسهما داخل المؤسسة العسكرية , كما لم يكونا من أصحاب البزات العسكرية .وبينما كان البعض يضرب أخماسا في أسداس بشأن الرئيس المنتظر , فوجئ الجميع بأن الرئيس المنتظر هو العقيد الشاذلي بن جديد مسؤول ناحية الغرب العسكرية , وكان ملايين الجزائريين يسمعون باسم الشاذلي بن جديد لأول مرة الذي قضى معظم وقته داخل الثكنات العسكرية .وقد ساهمت المؤسسة العسكرية في ترجيح الكفة لصالح الشاذلي بن جديد ، كما أن قاصدي مرباح مدير جهاز الاستخبارات العسكرية دعم الشاذلي بن جديد ، وكوفئ في وقت لاحق بتعيينه رئيسا للحكومة قبل أن يساهم ذوو النفوذ في المؤسسة العسكرية في الاطاحة به وتأليب الشاذلي عليه في حملة استهدفت العناصر البومدينية في مراكز الجيش والدولة . . وبين هذا وذاك، سعى الشاذلي بن جديد ودون «شوشرة» الى احداث تغيير أخر هو ادخال المتعلمين الى السرايا ولو باحتشام، قبالة الموجودين باسم الثورة والشرعية الثورية، ولولا هذه الفكرة لما تمكن الاصلاحيون من دخول دواليب السلطة والحكومة معا، ولكن توازنات ذلك الوقت –بلغة الأكاديميين وبلغة رجال سياسة- لم تسمح بوجود عدد كاف من المتعلمين والجامعيين والتقنوقراط بما يدفع الى اختلال الكفة لصالح من كانوا يريديون «شباب ألفين» بعيدا عن «الجهاز» وجوفه، الذي كان يسترجع اسطوانة «نحن اصحاب الحق اولا».. وقد كان الشاذلي ضعيفا أمام مراكز القوة و أهل الحل والربط داخل المؤسسة العسكرية ، وقد أعترف أنه حاول مرارا الفرار من هذا المنصب الرئاسي الذي لم يخلق له والذي دفع اليه دفعا .والشاذلي الذي كان بعيدا عن الجزائر العاصمة مركز الثقل في لعبة الحكم , وجد غداة انتقاله الى الجزائر العاصمة ليقود الدولة صعوبة في التأقلم مع الأجواء المشحونة التي خلفها رحيل هواري بومدين . وبحكم خلفيته البورجوازية وقربه من الغرب قررّ وبدعم من اللاعبين الجدد تدشين بداية الطلاق بين الجزائر وايديولوجيتها السابقة . لقد قرر الشاذلي بن جديد أن يخوض معركة الانفتاح على الغرب و لكن ذلك ماكان ليتم بدون اعادة ترتيب البيت السياسي والقضاء على الامتداد البومدييني في المؤسسة العسكرية ودوائر القرار و وبهذا الشكل وجد رجالات هواري بومدين أنفسهم على الهامش و أحيلوا الى التقاعد قبل حلول السن القانونية كبلعيد عبد السلام وعبد العزيز بوتفليقة وغيرهما . ومثلما قام الشاذلي ومن يخطط له بتقليم أظافر المحسوبين على هواري بومدين.