سلام تقدير وعرفان وإكبار، أستاذي الفاضل أبو القاسم سعد الله، على روحك الطاهرة الزكيّة،ودعاء دائم لك بواسع الرّحمة والغفران وعظيم الأجر والثواب، وجنّات نعيم إن شاء الله فيها مخلّد إلى جوار العلماء الأتقياء،الأبطال الشهداء، الأخيار الأبرار، الأعلام الكبار الذين أنجبتهم الجزائر، وبهم تعتز الأمة جمعاء وتفتخر. علاّمة بامتياز هِبة الله للجزائر الناهضة كان كرّم الله مثواه - أمة في رجلٍ، موسوعة جامعة لمعارف مختلفة، عبقرية متألقة بمواهبها المتنوّعة، شخصية رائعة بفضائلها المتعدّدة، علما وخلقا، سلوكا ومواقف، وطنية صادقة وإنسانية سامية تركت آثارها الجليّة وبذورها المتكاثرة في مئات الأساتذة والباحثين الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من علمه. وكذا في عشرات المؤلفات الغزيرة في تخصّصات متباينة، كان فيها مبدعا متفرّدا أو رائدا مؤسّسا، ودائما عميقا متميّزا. سعد الله أحد فحول الجزائر الناهضة السّاطعة، هِبة من الله للبلاد التي ما عقرت أبدا، فأنجبت منذ القدم فرسان سيف وقلم، رواد علم وإبداع، قادة فكر وإصلاح، رجال دولة وبناة حضارة. كان عاشقا للوطن الذي تغنّى به شعرا )ثائر وحب،أشعار جزائرية...( وكتب تاريخه )أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث...(،ودرس آثاره الأدبية )دراسات في الأدب الجزائري الحديث...(،كما عرّف بأعلامه )ابن حمادوش، الشاذلي القسنطيني،ابن العنابي، عبد الكريم الفكّون...(، وانشغل بقضاياه )هموم حضارية،في الجدل الثقافي، قضايا شائكة..، )وترجم صورته عند الآخرين )الأمير عبد القادر- شارل هنري تشرشل،الجزائر وأوروبا- جون ب وولف...(. كان معتزّا بتراث الأمة وتاريخها الملحمي، مدافعا عن الهُوية الحضارية، حريصا على الوحدة الوطنية، غيورا عن اللغة العربية وهو المتقن للغات الأجنبية، رافضا للعشائرية والجهوية، كارها للرداءة والتخلف، داعيا للعلم والاجتهاد، لمجتمع أصيل متقدّم ودولة حديثة قوية، مؤكّدا على ضرورة مراعاة الكفاءة العلمية والوطنية والإخلاص)1( سعد الله علاّمة بامتياز/ موسوعة ثريّة في عصر التخصّص، ألف في التاريخ والشعر والنقد والترجمة وأدب السيّرة والرحلة وتحقيق التراث...، كان روحا متّقدة مشبعة بالأصالة المتجذّرة في الجنوب )بلدة قمار- ولاية وادي سوف( حيث ولد وتربّى، عقلا فائقا متفتّحا متمرّسا على المنهجية والدقة والرؤية العميقة المركبة التي استوعبها في جامعات الغرب. كما كان صاحب حسّ وطني يقظ، يلتقط اللحظات الفارقة والأحداث الهامة، متفاعلا مع محيطه، قارئا مسجلا، محللا رائيا. كان مخلصًا لقناعاته،وفيًّا لمبادئه، عارفا بأهدافه، لا تثنيه المتاعب ولا تستوقفه المغريات. كان مؤمنا بقدره والطريق الذي اختاره يوم ترك دراسة الأدب في كلية دار العلوم بالقاهرة وقد كان فيه موهوبا متميّزا، شاعرا وناقدا. إذ لم يكن، بالنسبة للجزائر، رائد الشعر الحديث )الحرّ( بأول ديوان له )النصر للجزائر1957 فحسب،بل أيضا رائد النقد والدراسات الأدبية الأكاديمية، كما جاء في قراءتي عام 1988 لكتابه )محمد العيد آل خليفة، رائد الشعر الجزائري الحديث- 1960( الذي أحدث فيه قطيعة نوعية مع مَن سبقوه(2) نعم، كان مؤمنا أن الكتابة قدره والتاريخ عنوانه، إذ كان كما يقول الشيخ البشير الإبراهيميس مشغوفا إلى حدّ الإفتتان بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور)3( فلم تشغله موهبته الأدبية الواعدة عن رؤيته العلمية الإستراتيجية، فترك الشرق إلى الغرب، ملتحقا بالجامعة الأمريكية لدراسة التاريخ والتفرّغ له . كان سعد الله يعرف أهمية التاريخ في صناعة الذات الوطنية والهُوية الحضارية للأمة، يدرك خطر الفراغ الذي تعانيه المكتبة التاريخية الوطنية في مختلف فروعها، لذلك ركّز جهوده الجبّارة طوال نصف قرن تقريبا على جمع شتات الماضي وتمحيصه وتصنيفه في مؤلفات ضخمة، تحفظ أمجاد غابرة ومآثر مهملة من تاريخ الجزائر السيّاسي والثقافي والأدبي، مما يسهم في إحياء وصيانة الذاكرة الجماعية، وتعزيز مكوّنات الشخصية الوطنية، وترقية صورة الجزائر العريقة الناصعة التي تعٍرّضت إلى أبشع ضروب المحو والتشويه الاستدماري،وكذا تصحيح مغالطات المدرسة التاريخية الكولونيالية. كان يؤمن ويقول أنه لا مستقبل بلا ماض،لا إستراتيجية تنموية بلا هُوية وطنية، لا علوم وتكنولوجيا بلا علوم إنسانية، تلك هي المعادلة التي نهضت بها الأمم المتقدمة. العالم المتصوّف الوطني الزاهد كان سعد الله منبع علم لا ينضب، إرادة صلبة لا تلين، لا يملّ ولا ييأس على الرّغم مما لاقاه من مصاعب جمّة سنوات طوال في تحمّل أعباء العمل المضني والرحلة الشاقة بحثا عن كتاب أو مخطوط في أقاصي الجزائر الشاسعة أو مختلف بقاع العالم. لا زلت أذكر لقاءاتي الأولى به منتصف الثمانينيات من القرن الماضي،كنت آنذاك أستاذا مساعدا في كلية الآداب بجامعة الجزائر، كان كثير الأسفار، يجمع المراجع ويلمّ الوثائق، ينسج المتن العجيب ويؤلف النصوص العصيّة، ومن شدّة ولعه وحرصه على إنجاز واستكمال مشروعه العلمي الوطني الكبير،كان يحمل معه في سيارته أثناء تنقلاته الداخلية آلة نسخ (photocopieur) حتى لا يفوّت أية فرصة في سباق مستمر مع الزمن. كانت تلك صورة مبتكرة ملفتة مثيرة للإعجاب والتقدير. كان جامعة متنقلة،مؤسّسة في شخص، الجمع في صيغة مفرد، سألته ذات يوم في منزله القديم بحي ابن عكنون: ز أنتَ تنجز )تاريخ الجزائر الثقافي( مشروع ضخم يتجاوز قدرات فرد بكل أعبائه اليومية المرهقة. لماذا لا تستعين بمؤسسة رسمية أو جامعية ؟ أجابني في نبرة مرّة: جربتُ هذا سابقا وفشلتُ، بالنظر إلى كل التسهيلات والتشجيعات والمغريات التي يُحظى بها الباحثون في البلدان المتقدمة، وما يعانيه الباحثون عندنا من تعقيدات وعوائق كثيرة، أقول إن البحث في بلادنا تحديّ مضني والكتابة شبه معجزة، لذلك لن أنتظر المعجزة، ولن أعتمد إلا على نفسي بعون الله. كان من طراز الرجال الأفذاذ، متشبّعا بقيم العقيدة السّمحاء والثقافة الوطنية والحضارة الإنسانية،سليل المؤرخين الكبار وحفيد الرجال الأبطال، متصوفا في محراب العلم، متفانيا في خدمة قضيته الثقافية الوطنية،متساميا على المسؤوليات، زاهدا في الامتيازات )رفض رئاسة جامعة الجزائر وبعدها منصب وزير الثقافة في حكومة قاصدي مرباح - نوفمبر .1988 في بداية التسعينيات،ذهبت إليه في منزله ملتمسا منه أن يتكرّم بتشريفي بكتابة مقدمة كتابي )فضاءات،مقالات في المعرفة والإيديولوجية(، وقد آلمني أن أراه يعاني في ظل اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية متصاعدة، فألححتُ عليه أن يسافر للعمل في إحدى جامعات الخليج العربي، فردّ عليّ : ز كيف تريدني أن أذهب إلى الخليج وقد تركتُ أمريكا من أجل الجزائر، لقد أعطتني بلادي منحة لأمريكا لأتعلم التاريخ، لأدرّسه وأكتبه هنا، وليس لأجمع الدولار هناك. لا تغريني المناصب وقد عُرضت عليّ، ليس لدي وقت أضيّعه وراء المكاتب والبيروقراطية.وإذا اضطررت يوما إلى السفر فسأعود إلى أمريكا لمواصلة التوثيق والبحث . وقد فعل ذلك مضطرا لاحقا، فعاد إلى جامعة مينيسوتا Minnesota التي تخرّج منها قبل أن ينتقل إلى جامعة آل البيت بالأردن، حيث ظل حتى رجوعه إلى العاصمة. العلم عبادة وأمانة والوطنية واجب ورسالة، تلك قناعة راسخة جعلته ينذر حياته للكتابة والجزائر، اهدا في طلب الامتيازات ورافضا للمناصب المغرية، إذ رفض الوزارة والسفارة. فقد راسلني من مينيابلس بتاريخ 26 نوفمبر ,1994 معبّرا عن فرحه بتعيين صديقي وأستاذي الدكتور عبد الله ركيبي سفيرا للجزائر بدمشق قائلا زإن مثل د. الركيبي سيفيد الوطن حيثما كان، وقد كنتُ مطلوبا لسفارة القاهرة مع الإلحاح عدّة مرّات، ولكني اعتذرت بالمشروع الثقافي الذي تعرفه. ولو أني دخلت ذلك السلك الحديدي الدبلوماسي لتوقفت عن الإنتاج في المشروع،وقد حاولوا إقناعي بأني أستمر فيه وأنا في الوظيف الجديد،فكرّرت الاعتذار، وأرجو أن أكون على حقس. نعم، كنتَ على حق وألف حق، عندما تمسكتَ بقرارك الحكيم وموقفك النبيل، ولو فعلت غير ذلك، لربحت الدبلوماسية الجزائرية مثقفا كبيرا، لكن خسر التاريخ الوطني مؤرخا عملاقا. كانت رؤيته متبصّرة في رفضه هجرة الكفاءات الوطنية إلى الخارج، مع ضرورة الاعتناء بها حتى تحسن خدمة بلدها وشعبها الذي هو في أشدّ الحاجة لها. إذ قال لي في نفس الرسالة، ردّا على انشغالي بحالي المضطرب آنذاك بالقاهرة ورغبتي في التدريس بجامعة الإمارات : أما عن العمل الجامعي بالإمارات أو غيرها، فهو جيّد من ناحية، ولكن خسارة من ناحية أخرى،لأن فيه استنزافا للطاقات الأدبية والعلمية الشابة للبلاد. وإذا كان القدماء يحالون على التقاعد والشباب يهجرون الوطن، فماذا بقي لأبناء الجزائر؟ مَن سيعلمهم ويأخذ بأيديهم؟ لقد سمعتُ أن مئات من الأساتذة أصبحوا يعملون في ليبيا وغيرها من البلاد العربية،ولا تسأل عن الأوروبية والأمريكية، وذلك ما يحزّ في نفسي لأنني ضدّ الهجرة في هذه المرحلة من تطور البلاد، وربما كنتُ خياليا في ذلك؟ . عملاق الفكر، الجنوبي الأصيل كان مثالا في الطيبة والتواضع والوفاء، إذ وهو في قمة العلم والشهرة والغربة البعيدة لا ينسى ولا يتحرّج في مراسلة وتشجيع ورعاية شباب الباحثين والجامعيين وأحبائه الكثيرين الذين يكنّون له عظيم التقدير والاحترام. لا زلت أذكر تلك السّعادة التي غمرتني في القاهرة عام 1993 )كنت ملحقا بالسفارة ومسئول المركز الثقافي الجزائري( عندما تلقيت رسالة تهنئة من سعد الله وهو في جامعة مينيسوتا، بمناسبة حصولي على شهادة دكتوراه الدولة من جامعة الجزائر،رسالة مفعمة بصدق المشاعر ونبل الاهتمام، مؤشر بالغ الدلالة على الرّوح العلمية الإنسانية الرّفيعة التي تحلّى بها طول عمره. كنتُ أرى فيه عملاق الفكر الذي وهبته السّماء للجزائر بركة باسترجاع استقلالها، ليكتب تاريخها المغيّب وتراثها المهمّش،الأستاذ الملهِم، الموسوعي المتفرّد، العلمَ الفائق يترجّل متواضعا، الأدبَ الرفيع يتدفق محتشما، الوطنية المتجذّرة متسامية بلا مزايدة، الخبرة العميقة متألقة بلا استعلاء. كان يختزل رمزية الجغرافية الوطنية في شخصيته الفاضلة، الهادئ المعتدل الصّابر المبتسم كصحرائنا السّاحرة، الأبيّ المهيب الرائي العتيد كجبالنا الشامخة، الطيّب الأصيل المبدع السّخي كأرضنا الشاسعة. وبعد، بالنظر إلى كل الإنجازات العلمية الضخمة والأعمال الجليلة الكثيرة، قد نعتبره بمثابة ابن خلدون الجزائر أو أحد فطاحل التاريخ وأساطين المعرفة. لكني أقول يقينا وفقط، أنه لو لم يكتب سعد الله في حياته سوى )تاريخ الجزائر الثقافي - 10 أجزاء( لكفاه ذلك شرفا وفخرا. هذه شهادة مستعجلة لا تسعفها الفكرة المتأنّية ولا العبارة الأنيقة التي تليق بمقامك العالي. ألف رحمة وسلام عليك يفيض حسرة وأسى على فراقك الأليم في هذا الشتاء الحزين. ألف شكر لك على فضائلك العديدة وما أسديته للجزائر من أمجاد علمية أدبية غالية، منقوشة في قلوب تلاميذك وأصدقائك الكثيرين، محفوظة في ذاكرة الأمة باقية، تراثا حيّا مخلّدا أبدا. مراجع: 1 - حواري مع سعد لله، جريدة المجاهد الأسبوعي .1990015 2 -أسئلة الكتابة النقدية،إبراهيم رماني،المؤسسة الجزائرية للطباعة،,1992 ص184 3 -محمد العيد آل خليفة،رائد الشعر الجزائري الحديث- دار المعارف،القاهرة، ,1960 ص 5