1 كان لدينا في السودان شاعر مبدع اسمه إسماعيل حسن. توفي عام .1982 لم تسمع به، غالباً، مثل كثير من الشعراء والأدباء السودانيين. هذا أمر طبيعي. سُئل اسماعيل، الذي كان شهيراً باسم أمه إسماعين ود حد الزين، عن شعره وإبداعه، من أين جاء به؟ ما هو وادي عبقر الخاص به الذي تتنزل عليه فيه قصائده؟ مثل قوله: بلادي أنا بلاد ناساً مواريثم في أول شي ..كتاب الله وحصان مسروج، وسيف مسنون حداه درع كتاتيبم تسرج الليل مع الحيران وشيخاً في الخلاوي ورع وكم نخلات تهبهب في جروفا الساق وبقرة حلوبة تتضرّع وليها ضرع قال إسماعيل مجيباً : من الصعب أن لا تكون مبدعاً في القرير. والقرير هي مسقط رأس إسماعيل. قرية صغيرة لا تجدها على الخرائط. تقع في مكان ما على نهر النيل في شمال السودان. يضمها النيل وتحفها الصحراء، وتخترقها جنائن المانجو والنخيل. في القرير تتدلى ثمار المانجو الصفراء عليك داخل البيت ويوشوشك حفيف جريد النخل. القرير هو طمي النيل في اللغة. الطمي الأسود الخصب الذي ينبت كل شيء. وعند إسماعيل حسن القرير تنبت الإبداع. ومن بيئة قريبة لهذه على بعد أميال شمالاً جاء الطيب صالح وإبداعه. وفي السودان جميعه، سواء أرضه الطينيه، أو الصحراء، أو المدن الهادئة، أو الجبال البعيدة من الصعب أن لا تكون حكّاءاً. 2 الذهنية التصنيفية للشعوب العربية تحب أن تصف أهل السودان بالكسل. يرددون ذلك كنكتة طريفة. يقولها لك الناس في وجهك وهم يرشقونك بابتسامة محبة. انتم شعب كسول . حسناً .. نحن نرد على هذا التصنيف بمزيد من الحكايات؛ يعشق أهل السودان مجالس السمر والونس. ربما لذلك لا تراهم عجلين لشيء ما. حين توفي أستاذنا الطيب صالح كتب عنه د. حيدر إبراهيم ? أحد أبرز مثقفي السودان ? مقالاً ينعي فيه حب الطيب للونس الذي أخره عن كثرة الكتابة. ويوسف إدريس قال للطيب صالح حين أقرأ لك يا الطيب أحس بالونس . نحن شعب يحب الونس يا سادتي. إنه صنعتنا. من الصعب أن تجد سودانياً لا يحترف الونس ويحب الحكاية. احسب عندك : الطيب صالح .. أبكر أدم إسماعيل .. عبد العزيز بركة ساكن .. أمير تاج السر .. واستمر في الحساب. كلهم يمتهن الحكاية، ويقول عنهم العالم إنهم يمتهنون الرواية. الحكاية هي الحلم الأعظم الذي تمناه جابرييل جارسيا ماركيز. قال ليتني شاعر عربي يمر على القرى يحكي حكاياته، ويكسب رزقه من إعجاب الناس بها . 3 يتعلم السوداني الحكاية من الصغر. الحكاية هي السر الأعظم الذي تمرره الجدات للحفدة. يرى نفسه طفلاً صغيراً يتعلق بذيلها ويرقب الليل شغفاً ليتربع بين يديها ويقول مستعطفاً : حجيني يا جدتي . مقطع من قصتي حجيني يا جدتي كتبته في 1997 في بداية علاقتي بالكتابة، تحية لجدتي بتول بنت بابكر سيدة الحكايات. كغيرها من الجدات. الجدة الأسطورية العارفة بكل شيء. تقود حفيدها إلى عوالم سرية لا يعرفها غيرها. كأنها بياتريس تقود دانتي عبر الجحيم فالمطهر ثم الجنة. الجدة التي تعرف حكايات فاطمة السمحة، ومحمد ود السرية ومحمد ود العربية ، ويوسف ود السلطان، ومئة طريقة لقتل الغول. 4 كل شيء في السودان حكاية تستحق أن تروى. والواقع في السودان ليس واقعاً اشتراكياً أو رومانسيًا عن الغرام ومعاناة الناس ومصاعب الحياة وحكمتها وغموضها. إنما الواقع هناك سحري يذهل له لب ماركيز. ربما لذلك كانت في قلب الطيب صالح غضة دائمة حين يمجد النقاد واقعية ماركيز السحرية ويقول الطيب أنا كتبت الواقعية السحرية في عرس الزين قبل ماركيز بزمن. الواقع في السودان تختلط فيه الفنتازيا بالماورائيات. في البرلمان السوداني قبل سنوات وقف أحدهم ليطالب رئيس الجمهورية بالإستعانة بالجن المسلم لتنمية البلاد. وشكره الرئيس واهتم بطلبه ووجه أن تتم دراسته. هذه حكاية واقعية تنتمي إلى حكايات الجدات التي نتعلمها صغاراً وننشأ عليها. نؤمن بالشيخ حسن الميرغني ، سيدي الحسن ، رجل كسلا، المدينة البديعة في شرق السودان. سيدي الحسن المولود بجلبابه ولم تنكشف له عورة. وما اتسخ جلبابه ليُغسل ولا تمزق ليُخاط. هذه ليست أساطير يا سادتي. إنها حياتنا وحكاياتنا. تاريخ السودان الحديث درته دولة المهدية ( 1885 - 1898 . أول دولة وطنية سودانية، دولة أسسها مهدي الله المنتظر الذي يأتيه الوحي المحمدي. في عام 1881 حين كان أحمد عرابي يقف أمام سراي عابدين ليواجه الخديو توفيق مطالباً بزيادة عدد قوات الجيش وتكوين مجلس نواب كان مهدينا يبعث برسالة لنواب ذات الخديو مطالباً بالإيمان به مهدياً من الله. وعام 1885 حين مات في باريس فيكتور هوجو مات في مدينة أم درمان الوليدة المهدي بعد أن أسس دولته التي يحمل رايتها عزرائيل وتقاتل فيها الملائكة. 5 نه واقعنا. حكاياتنا التي نعيش لنرويها. ربما لذلك تقرأ في أعين السودانيين ضيقاً من الشعوب التي تدعي المعرفة بالسودان. سيقول لسان حالهم: ماذا تعرف عنا ؟ ماذا تعرف عن حكاياتنا ؟ هل تعرف الشيخ الهميم الذي أباح له الله الزواج من الأختين ؟ هل تعرف مدينة سواكن التي بنتها الجن ؟ هل تعرف شيئاً عن مقابر الصحابة بالسودان التي انتقل إليها جثمان حمزة والعباس عمي رسول الله ؟ هل تعرف مكان اسراء النبي في السودان وانتظاره البراق ليعرج من هناك لولا أن نبحته الكلاب فانتقل المعراج إلى بيت المقدس ؟ هل تعرف حكايات أجدادك وقصصهم وكم هم عظماء ليس في السودان حرافيش يا سادة. ولا بقعة أرض ليس لها تاريخ وحكاية وسحر. أهل السودان كذلك الشاعر العربي الذي تمنى ماركيز أن يكونه. يعيشون ليحكوا. ليمرروا هذه الحكايات العجيبة بسحرها الأخّاذ إلى الأتين من بعدهم. ولا شيء يؤذي الحكّاء بقدر أن تقول له أنا أعرفك . كأنك تقول له أنا أعرف حكاياتك كلها. أنت تقضي على مبرر وجوده ذاته. ماذا يحكي إن كنت تعرفه ؟ أنت بلا شك لا تعرفه. إن لديه في جرابه المزيد والمزيد من الحكايات التي ستبهرك. سيثبت لك أنك لا تعرفه. إنه ليس مجرد دولة جوار، أو ابن النيل، أو شعب طيب. سيبرز لك حكايات كثيرة وعجيبة ليثبت لك أنك مخطئ. فهو ابن بلد لا تنقضي حكاياتها وعجائبها. 6 السودان يا سادتي حكايات. ومن الصعب أن لا تكون حكّاءاً في السودان. ربما هنا نحكي بعض حكايات السودان. لكن بالتأكيد ليس كلها.