عبر الدساتير المختلفة للجزائر منذ استقلالها عام 1962 حتى آخر دستور ,2008 استمرت الدولة في التنكر لواقعها عبر تشريعات لا تعترف بشكل واضع بهذا الواقع المتسم بكونه لا ديني بشكل واضح، على الأقل بنسبة 99 بالمائة من سلوكات السلطة والشعب، في حين تتعمد التشريعات لاسيما الدستور في تقرير أن دين الدولة هو الإسلام، مضفية طابعا دينيا على واقع يتعارض مع هذا الحقيقة القائلة أن الإسلام هو دين الشعب فحسب. على المستوى النفسي، يعتبر هذا الوضع مرضيا، يعبر عنه أطباء النفس بالشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية. ولأن شخصية الدول وروحها أيضا تتمظهر أول ما تتمظهر في ثقافتها، فإن الجزائر-وقد تكون الدولة الوحيدة في العالم- أغفلت تماما أن تقدم تعريفا واضحا للثقافة في مختلف التشريعات المتعلقة بهذا القطاع. لا يعبر هذا الإغفال على أي نوع من السهو، بل كان متعمدا لمعرفة السلطة، أن وضع تعريف مماثل قد يفتح الباب أمام مسائل مهمة بعضها لم يعترف به حتى مجيء بوتفليقة للحكم والبعض الآخر استمر في إنكاره وقد يستمر لعقود أخرى. في التنوع الثقافي ورفض فكرة الاعتراف به رغم التعدد الثقافي في الجزائر، تستمر التشريعات الجزائرية بما فيها تلك التي وضعت بين سني 2002 و2013 والمتجاوزة 548 تشريعا مختلفا، الاعتراف بهذا التنوع. الخطر التي تستشعره السلطة من هذا الاعتراف هو السبب الرئيس في امتناعها عن تقديم تعريف محدد للثقافة، وهو السبب الأهم في رفض الجزائر الانضمام والتوقيع على على اتفاقية اليونسكو لعام 2005 الضامنة لهذا الحق، ما يعيق فعالية الطاقات البشرية المتعددة في البلاد? عن هذا تقول الدكتورة والباحثة حبيبة العلوي: الانخراط في قائمة الدول الداعمة لاتفاقية اليونسكو 2005 يعني بالأساس تقبل فكرة التنوع الثقافي, وعلى إثرها تتحقق فكرة الوحدة في التنوع. هناك تضارب في الآراء حول ضرورة بناء جسور بين الكيانات الثقافية في البلاد، بدءا بالداعين إلى عدم الخوض في المسألة، لأن الجزائريين ظلوا موحدين دون الحاجة إلى سياسات تنظيمية? فيما يقول الفريق الثاني من معتنقي نظرية المؤامرة الذين يتساءلون: هل نحن متصالحين مع فكرة الوحدة في التنوع من حيث الممارسة الفعلية عبر الخمسين سنة الأخيرة أم نحن في حاجة إلى إقامة هذه الفكرة والتأسيس لها في ظل الرهانات العالمية الجديدة؟ص يبدو الأمر بسيطا ولكنه معقد في الحقيقة. تجليات هذه المسألة تتمظهر أكثر في الواقع الأمني في الجزائر لاسيما في منطقة غرداية. كثيرون هم المحللون الذي يعزون ما حدث من اضطرابات لأسباب شتى، ولكن السبب الرئيس بلا شك، هو التراكم الذي حدث بسبب إغفال حقيقة التنوع الثقافي بما فيه الديني في الجزائر. حتى أن مطالب الميزابيين مثلا في رغبتهم في إدراج لهجتهم كلغة تعلم في المدارس أو مذهبهم الإباضي، دليل واضح على أن عدم الاعتراف بثقافتهم رسميا وواقعيا أدى إلى مثل هذا الاحتقان. وكانت الباحثة الدكتورة حبيبة العلوي قد قدمت قبل سنتين مداخلة مهمة في المؤتمر الإفريقي الذي انعقد في جنوب إفريقيا الذي يتناول مدى تطبيق اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، التي تعتبر من أهم اتفاقيات اليونسكو، التي لم تصادق عليها الجزائر بعد لأسباب مجهولة، رغم أن نفس المتحدثة قالت أن الجزائر لا تنخرط في نطاق الدول التي تتميز بتنوع ثقافي كبير، على أساس أن حجم البلاد لا يضاهي حجم الهند أو إندونيسيا؟ وحددت المتحدثة الأبعاد الثقافية الجزائرية في الإسلام. الحنين إلى زمن الهيمنة لم يعد يعد ثمة من شك، أن الدولة تخلت عن خيار الإشتراكية منذ عام ,1989 وهو ما ترجمته الدساتير المختلفة وآلاف التشريعات من قوانين ومراسيم وأوامر تخلص إلى نفس النتيجة. إلا أنه في القطاع الثقافي، تنصلت الدولة عن خياراتها هذه وحاولت أن تعمل مفهومي الاحتكار والهيمنة على القطاع. يقول الدكتور عمار كساب، مدير الصندوق الإفريقي للفنون والثقافة بكيب تاون- جنوب إفريقيا: لقد كان الهدف من هذا التدخل بواسطة النصوص التشريعية والتنظيمية هو استعادة السيطرة على قطاع اهملته طوال أكثر من عشر سنوات. يضيف بكل حسرة: حاليا، يتسم القطاع الثقافي والفني، بفضل هذا التشريع والتنظيم الثقافي، بتدخل قوي للدولة التي أصبحت تسيطر على مجموع الهياكل الثقافية وكذلك على الأحداث والمبادرات الثقافية. ويشبه هذا الشكل من الهيمنة ما حدث في الفترة ما بين 1962 و.1988 وبالتالي، هل السلطات آخذة في تكرار التخطيط نفسه الذي أدى إلى فشل القطاع الثقافي بداية من 1988 تصبح الدولة المنظم لقطاع هي المتعهد الوحيد فيه! بالفعل، فقد أحسن الدكتور عمار كساب تلخيص الفترة الممتدة من 2002 إلى الوقت الحالي، وأحسن وصفها على أنها فترة هيمنة الدولة على القطاع الثقافي، وهي هيمنة جسدت الشعار المتبنى في كل تظاهرة ثقافية في الجزائر المتمثل في تحت الرعاية السامية، حتى أفرغ هذا الشعار كل تظاهرة من محتواها. فمنذ عام ,2002 بعد تحسن الموقف الاقتصادي والأمني بشكل كبير، استعادت الوزارة المسئولة عن الثقافة قواها، وهو عام تميز بوصول وزيرة جديدة للثقافة وهي لا تزال في موقعها حتى الآن 2013-. وزارة الثقافة، التي دعمت منذ 2003 بميزانية كبيرة بشكل متزايد، جعلت من التشريع الثقافي وسيلة لإعادة تنظيم القطاع الثقافي وإنشاء استرتيجيتها. ومن ثم تميزت هذه المرحلة الثالثة، بعمليات تشريع وتنظيم كثيفة جدا. وكان هذا الاختيار مبررا بحقيقة أن هذه المرحلة، فضلا عن أنها عرفت نشر عددا كبيرا جدا من النصوص التشريعية والتنظيمية الحاسمة في الصحيفة الرسمية، فإنها شهدت إجراء انقلابات رئيسية في القطاع المعني، وغيرت هذه الانقلابات بشكل كبير من المشهد الثقافي والفني في الجزائر. يظهر هذا الرسم البياني الرغبة الهستيرية التي تملكت السلطة في الهيمنة على القطاع، عبر ضخها لملايير الدولارات في قطاع الثقافية من أجل استعادته واحتكاره بشكل مطلق: يقدم الدكتور عمار كساب هذه الملاحظة المهمة في هذا الشأن: انتقلت ميزانية الوزارة المسئولة عن الثقافة من 64 مليون دولار في عام 2003 إلي 3,561 مليون دولار في عام ,2012 أي حوالي ميزانية عام 2003 مضروبة في .9 لقد أدت السياسة إلى تحييد المبادرات الفردية، وتقزيم الحركة الجمعوية وتهميشها وأيضا إلى استبعاد القطاع الخاص بشكل ما من تمويل الفعل الثقافي في الجزائر. الأخطر من ذلك خلقت نوعا الاتكالية لدى بعض المؤسسات الثقافية وشللية تسبب فيها التنافس بخصوص الاستفادة من ريع الدولة ومن تلك الملايير التي تضخها الدولة في قطاع أعلن موته ولكنه أبقي حيا إكلينيكيا فحسب.