تطل بنا رواية عاصفة الجن الصادرة عن «دار طوى اللبنانية لسنة 2013» للروائي «خليل حشلاف» على حلم ممزوج برغبة جارفة في التغيير، وتفتح أقواسا لفترة زمنية وجيزة، هي الإرهاص الأوّل لإتجاه أحداث التسعينيات ، ولحظة إنفجار هائل تمخّض عن إعتمال الأشياء المتناقضة في الذات، وسط عالم تداعت أركانه وتداخلت طبقاته، كما تقترح علينا_ تلك اللحظة _ صياغة عالم جديد ضمن المتخيّل والفضاء السّردي ..عالم تتداخل فيه الأشياء لتبرز في خلق جديد قوامه حبّ من نوع آخر، وتسلط على الأخر، كما تكشف النزعة الريبية لدى الكاتب الذي يقابلُ بين مفهومي الحب والتسلط عبر تمثيل العلاقة (الحب والنفور) وعبر اقتراحين قوامهما أن تعدّد النساء في حياة البشر لا يجعله بالضرورة من ذوي القلوب الرحيمة، والواسعة للجميع، وأن التسلّط ليس هدفا بحدّ ذاته بقدر ما هو صراع بقاء.في عالمه (عاصفة الجن) الذي يستوعب كل المتغيرات وكفضاء جديد مسكون بالالتباس يمنحنا مساحة ممتلئة بفعل التأويل. إن انشغالنا يتمحور أساسا حول العنوان (عاصفة الجن) كوحدة نصّية دالة، لها سلطة اللغة، وسلطة الصدارة.ولأن الإحاطة بالبعد الذي يتّخذه العنوان تزيد من كفاءته في الاستجابة لفعاليات القراءة، وتبين وظيفته الدلالية التي تتمثّل في التّدليل على المحتوى، بوصف العنوان هو «البنية الرّحميَّة للنص، التي تشكّل سلطته وواجهته لما تحمله من وظائف جمالية/تأثيرية/إغرائية/... «لأن القراءة الفاحصة للعنوان يُبنى عليها التوقع الذي يقود القارئ إلى الكشف عن مفاتن النص، ودلالاته الجمالية، وهي التي تقلّص المسافة بينه وبين المكتوب بالكشف عن علاقته مع مكونات المتن النصي. يقول الدكتور محمد صابر عبيد: «إن العلاقة بين عتبة العنوان ومكونات المتن النصي علاقة تضافرية توليدية لا يمكن ضبطها وفق سياقات ممنهجة، لأنها إنما تخضع لحالات شعورية وذهنية وبنائية وتشكيلية تأخذ لدى المبدع صيغاً متنوعةً يجب أن تُقارب دائماً من خلال مجمل المكونات البنائية للنص.» لذا فسنستهدف العنوان (عاصفة الجن ) كوحدة للتحليل اللغوي دون إهمال العناصر السياقية. مع توظيف أدوات إجرائية تتلاءم مع تحليل عتبة العنوان. معتمدين في ذلك كعادتنا على اللغة كأساس لتفكيك اللفظ ، وتبيان مراميه بوصف العنوان أنه أقصى اقتصاد لغوي في النص الأدبي. وآخذين بقصدية الكاتب _لافتراضنا سلفا_ أنه قد شيّد العنوان في لحظة واعية. يقول الكاتب عن روايته « إنها تفتح أقواسا لفترة زمنية وجيزة هي الإرهاص الأول لأحداث التسعينيات إلى العشرية السوداء» وهذا كفيل بأن ينير لنا جانبا من القصدية لأننا نضع في الحسبان أنّ « مقاصدَ المتكلم مؤشراتٌ حاسمةٌ في عملية التأويل، وإلغاءَها إلغاءٌ لجزء معتبر من معمار المعنى النصي إن لم يكن إعداما مطلقا» وهذا الجزء من المعمار يخضع لحالات شعورية وذهنية وبنائية وتشكيلية تأخذ لدى المبدع صيغاً متنوعةً يجب أن تُقارب دائماً من خلال مجمل المكونات البنائية للنص.» وإذا كان وراء كل كتابة محترمة فلسفة وتخطيط يبيحان لنا محاولة تفكيك العنوان كوحدة نصية متضمنة في النص،لا تخرج عن إطار هيكلة المتن ،وتنعكس على البنية الدلالية العامة في المتن عموماً. تفكيك بنية العتبة الأولى : باعتمادنا على الجملة ( العنوان) كآلية التعيين والتحديد والتصوير، فانه يمكننا أخذ فكرة حول النص، فتثيرنا إغرائية العنوان التي تكمن بدايةً في الجمع بين (العاصفة والجن)، فالعلاقة بين الجن والعاصفة علاقة مخلوق (جنس) مستتر بظاهرة مرئية، والجمع بالطبيعي بما وراء الطبيعة من جهة، وبالمرئي بغير المرئي من جهة أخرى. يولّد رغبة لدى القارئ للدخول إلى النص والإبحار في محيطه الفني، واقتحامه برؤية مسبقة قوامها هذا التوليف، فالكلمات كائنات تحمل إلينا المعارف كما تحمل تحولات عميقة، وبقايا من اعتقاد الإنسان ومن خوفه من المجهول والمستتر. فالكلمة الأولى عاصفة تحيلنا إلى الطبيعة والغضب، وإلى قيمة سلبيةكما تحيلنا إلى المكان، فهي لا تحدث إلا في مكان جغرافي طبيعي، والثانية الجن مخلوق مخيف نجهل شكله وظاهرة، يحيلنا إلى عالم آخر، ويمثل كذلك قيمة سلبية، والمعنى الكلي للفظتين يحيلنا إلى الخروج عن المألوف ممّا قد يولّد الإثارة والدهشة لدى متلقي النص كما يشكل تنبيها يقذف بنا في فضائه. في اللغة عاصفة الجن جملة اسمية، تثير ارتباكا في المعنى نظرا لبنية الإسناد النحوي ، فمن جهة يمكن التعويل على الابتداء في مقابل الإخبار المضمر، وهنا يتّسع المعنى بتوقّع جملٍ أخرى من قبيل : قادمة ... فاتت ... مرعبة ...الخ ... ومن جهة أخرى يمكن التعويل على الإخبار، فيصبح الإسناد متكئا على المحذوف القبلي ، والذي يفتح التأويل على الضمير، أو الفعل الغائب لاستواء القصد كأن نتوقع : هذه عاصفة....أو حلت عاصفة الجن ...، وفي هذا وذاك ينفتح المعنى على أكثر من قصد ، وإن كانت الجملة الاسمية تحيلنا إلى الثبات، فإنّ السياق يفيد أن العاصفة تتنافى مع الهدوء، فالهدوء يسبقها أو يليها، والجن مخلوق لا يثبت على هيئة، والجملة ابتدائية تتكون من (عاصفة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه و( الجن) مضاف إليه والمجموع وحدة نصية ذات سمك دلالي قوي يحيلنا إلى شساعة لا متناهية بفعل التأويل . أمّا لفظة عاصفة فتعني ثورة وهياج واضطراب يحدث في البحر أو البر وجمعها عاصفات وعواصف وهي صيغة المؤنَّث لفاعل عصَفَ . وتؤججها الرياح أو تنسب اليها جاء في القرآن الكريم « وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ « الآية 81 من سورة الأنبياء، والعاصفة تحيل إلى الثورة، وإلى عدم الاستقرار والاضطراب المؤدي إلى الخوف والتدمير، كما تطلق على كل هيجان مادي، أو معنوي ويحدّد معناها الدقيق ما تضاف إليه (كعاصفة شمسية وعاصفة ثلجية وعاصفة الجنّ وعاصفة حبّ). يقول ابو القاسم الشابي: يودُّ الفَتَى لو خاضَ عاصفة الرّدى ** وصدَّ الخميسَ المَجْرَ، والأسَدَ الوَرْدَا أما الجن لغة فقد جاء في لسان العرب لابن منظور جنّ الشيء ستره، وبه سمي الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار.لذلك كانت الجنة في اللغة البستان العظيم الذي يستر ما بداخله، وهي مشتقة من: جنن التي هي بمعنى الستر، ولذلك ، سمي الجنين جنيناً لاستتاره في بطن أمه، ومنه جنون الليل أي شدة ظلمته وستره لما فيه... ¯ يتبع..