يرى الوزير السابق الدكتور بوجمعة هيشور، أنه قد حان الوقت للتفكير جديا في مرحلة ما بعد النفط، من خلال تنويع الصادرات والعمل على تطوير القطاع الصناعي، مع ضرورة إعادة هندسة إستراتيجية طاقوية خارج منظمة "الأوبك" والاعتماد على الاستشراف لتجنب أي طوارئ، وتوقع هيشور في هذا الحوار الذي خص به »صوت الأحرار« ارتفاع أسعار النفط خلال السداسي الأول من السنة الجارية وبلوغها معدل 80 دولار للبرميل، كما أكد في تقييمه لتعاطي الحكومة مع الصدمة البترولية، أن الإجراءات الاستعجالية المتخذة من شأنها تحصين الاقتصاد الوطني، مشددا على أن قرارات الحكومة بإعادة النظر في الحجم المالي لبعض المشاريع المسندة لقطاعات معينة لا تعني التقشف على حساب الشعب، وعلّق هيشور على انتقادات المعارضة بالقول إنه من حق الأحزاب التحفظ بشأن قرارات السلطة شريطة تقديم البدائل والحلول الحكيمة لحماية الاقتصاد الوطني من تداعيات الأزمة. في البداية، كيف تقيمون تعاطي الحكومة مع الأزمة النفطية؟ أولا يحق لي أن أقول، أنه لولا فطنة رئيس الجمهورية لكانت الحكومة لا تزال في سباتها العميق، خاصة عندما يتعلق الأمر بثروة حيوية يبنى عليها مستقبل الأجيال مثل النفط، كنا ننتظر أن تعطي الحكومة الإشارة الأولى باستباقاتها عندما بدأت ملامح الأزمة تتجلى مطلع ,2014 أين كان من المفروض عليها أن تطالب المؤسسات الاقتصادية بجمع الخبراء في مجال السياسة النفطية، لتقديم السيناريوهات المحتملة للأزمة وأخذ التدابير والقرارات المناسبة عند الحاجة قبل أن تسبقنا الصدمة، وهنا أود أن أؤكد مدى حاجتنا لهؤلاء الخبراء، مثلما كان عليه الحال في السابق عندما كان المجلس الوطني للطاقة يجتمع من أجل متابعة التطورات الجارية في السوق النفطية، وكانت الحكومة تقدم من خلال مؤسساتها وعلى رأسها »سوناطراك« المؤسسة الأم، كل السيناريوهات المحتملة، وعلى هذا أدعو وزارتي الطاقة والتعليم العالي إلى إنشاء فرق تفكير وخلايا مشكلة من خبراء في مختلف الاختصاصات خاصة وأن المورد النفطي لا يزال لحد الآن المورد الأساسي للاقتصاد الوطني. وفيما يتعلق بالمجلس المصغر الذي انعقد منتصف الأسبوع الماضي، أعتقد أن رئيس الجمهورية سارع إلى استدعاء كافة القطاعات المعنية بالمجال الطاقوي، وكان الهدف من اللقاء دق ناقوس الخطر ولفت انتباه الجميع من أجل دراسة نتائج اجتماع البلدان المصدرة للنفط المنعقد نوفمبر المنصرم، وهنا أعود إلى التأكيد على أننا لم يكن لدينا معلومات حول هذه الأزمة، في ظل غياب مؤسسات استشرافية سواء كانت دبلوماسية أو أمنية لتقديم تنبؤاتها خاصة في مجال حيوي كالطاقة الذي تبنى عليه ميزانية الدولة وكذا مختلف الجوانب المتعلقة بالاستثمار في البلاد، خاصة تلك المتعلقة بالمخططات الإنمائية التي جاء بها رئيس الجمهورية منذ توليه الحكم. لقد أخذت الحكومة بالحلول التي قدمها رئيس الجمهورية والتعليمات التي وجهها للوزير الأول بخصوص التحكم في نفقات المشاريع من خلال التركيز على المهمة منها وتأجيل كل مشروع لا يؤثر في التنمية المستدامة في الوقت الراهن، وأظن أن تلك القرارات لم تكن ارتجالية بل حكيمة تراعي ضرورة استمرارية برنامج الرئيس. رغم تطمينات المختصين والوزراء بشأن قدرة الجزائر على مواجهة الأزمة البترولية، لا يزال سعر برميل النفط مرشحا للتراجع في المستقبل، في رأيكم ما مدى تأثير ذلك على الاقتصاد الوطني؟ إذا استمر تراجع سعر برميل النفط بهذا المستوى خلال الفترة المقبلة، ستكون هناك تأثيرات وخيمة وسلبية على سيرورة ميزانية الدولة، فبالعودة إلى مختلف برامج التنمية التي أرساها رئيس الجمهورية والأغلفة المالية المخصصة للبرامج الخماسية، نسجل 200 مليار دولار تم تخصيصها للمخطط الخماسي ,20092004 مقابل 286 مليار دولار بالنسبة للمخطط الذي تلاه مع تسجيل حوالي 43 بالمائة من المشاريع التي لم يتم استكمالها، أما فيما يتعلق بالمخطط الخماسي المقبل الذي خصصت له ميزانية 262 مليار دولار فنسجل ما بين 30 و35 بالمائة من المشاريع المتبقية من المخطط السابق، ويجب الإشارة إلى أن الأغلفة المالية قد حددت على أساس أن سعر برميل النفط لن يقل عن 115 دولار، لذلك لا بد من الإبقاء على الحكامة الرشيدة وتخفيض الواردات من أجل حماية الاقتصاد الوطني. وحسب توقعات الخبرات ونتائج الدراسات التي قام بها أبرز المعاهد المتخصصة في مجال الطاقة، فإن المنافسة بين الدول المنتجة لهذه الطاقة ستتواصل كما أن الغاز سيكون المورد الأساسي للطاقة في ظل توقعات بنضوب البترول خلال المرحلة المقبلة، وفي المقابل تشير دراسة أجراها معهد »أسبو« المتخصص في الدراسات البترولية، فإن الاحتياطات العالمية ستبلغ الذروة في آفاق ,2030 وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا ستكونان في وضعية محرجة فيما يتعلق بامدادتهما بالغاز الطبيعي، كما أن جميع الدراسات التي تم إجراؤها تؤكد أن ثروة الدول الغربية تستوجب تنويع مصادر الطاقة. كثيرون يتخوفون من تكرار سيناريو الصدمة البترولية التي عاشتها الجزائر سنة ,1986 ما مدى مشروعية هذه المخاوف؟ لا مجال للمقارنة بين أزمة 1986 و,2014 فقبل 28 سنة كنا دولة مديونة داخليا وخارجيا وكانت خزينة الدولة فارغة تقريبا، مما دفع البلاد إلى الاستدانة وجعلها تعيش أزمة اقتصادية ظهرت تداعياتها اجتماعيا وماليا وحتى أمنيا بعد المرحلة العسيرة التي عاشتها بلادنا وفترة اللاأمن التي عانى خلالها الشعب الجزائري، لكن حاليا وبفضل حكامة الرئيس في تسيير المال العام واستباقه تسديد الديون الخارجية تراجعت هذه الأخيرة إلى 5,4 مليار دولار، ونستطيع القول إن حالنا المالي جيد سواء بالنسبة لاحتياطي الصرف أو صندوق ضبط الإرادات، وكأن رئيس الجمهورية كان يتوقع أن تطل علينا صدمات النفط يوما ما، كما أن الرئيس راعى ضرورة الحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال جملة القرارات التي اتخذها والتي أكد من خلالها الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية واستكمال المشاريع ذات الارتباط المباشر بالمواطن على غرار السكنات بمختلف صيغها والشغل وكذا قطاعات الصحة والتربية وغيرها، وبالمقابل أعلن الرئيس أن برنامجه الخماسي المقبل سيطبق شريطة تجريده من الكماليات والتبذير الذي قد يقود في بعض الحالات إلى نوع من الفساد، وعلى هذا كان من بين القرارات التي أعلنها رئيس الجمهورية وأمر الحكومة بتعجيل تطبيقها، ترشيد الموارد الموجودة والتحكم في نفقات المشاريع مع ضرورة الالتزام بالميزانيات المخصصة لكل مشروع، وهذا لا يعني التقشف على حساب الشعب، بل إن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة يقصد بذلك إعادة النظر في الحجم المالي لبعض المشاريع المسندة لقطاعات معينة، فلا يمكننا الحديث عن توقيف التوظيف والشباب ينتظر بعد خروجه من الجامعة أن تتكفل الدولة بخلق مناصب عمل سواء في القطاع العمومي أو الخاص. أكد المجلس الوزاري المصغر مواصلة المشاريع ذات الطابع الاجتماعي، وبالمقابل حملت تعليمات الحكومة قرارات مثل غلق المؤسسات ذات الطابع الإداري وتجميد التوظيف، ألا تعتقدون أن هذا النوع من التناقض من شأنه أن يوقع الحكومة في فخ »السلم الاجتماعي« الذي تحاول منذ سنوات حمايته، وكيف لها الحفاظ على مكسب الأمن خاصة وأن الأزمة النفطية مرشحة للاستمرار؟ التعليمة لم تتكلم عن توقيف كلي للتوظيف، لأن القرار الذي أعلنه الوزير الأول ليس عاما وليس كليا، لذلك لا بد من تجنب التسرع في إصدار أحكام قد تؤدي بنا إلى المساس بالانسجام الاجتماعي، خاصة وأن رئيس الجمهورية كان صارما فيما يتعلقبالجوانب الاجتماعية حين أمر الحكومة بأخذها بعين الاعتبار، كما أن تطمينات عديد الوزراء على غرار وزير السكن توضح ذلك. فبعملية حسابية صغيرة وبالعودة إلى تصريح محافظ بنك الجزائر محمد لكصاسي، فإن صندوق ضبط الواردات قد نزل من 5228 مليار دينار في 2013 إلى 4773 مليار دينار في أواخر مارس ,2014 أي أن العجز في قانون المالية لسنة 2015 سيعادل 52 مليار ، ولو افترضنا أن الإجراءات ستمس الجانب الاجتماعي أو القدرة الشرائية للمواطن، هنا يمكننا القلق على استقرار البلد والحديث عن تهديد حقيقي للأمن القومي، لكن الرئيس أكد أنه لا يقبل التراجع عن سياسته الاجتماعية وبرنامجه الخماسي ورفض المساس بالميزانية المخصصة له. ومن بين القرارات التي سيتم تطبيقها هذه السنة، إلغاء المادة 87 مكرر من قانون المالية، حيث تشير أرقام الديوان الوطني للإحصائيات إلى وجود 7 ملايين و393 ألف أجير في القطاعين العام والخاص، وأن كتلة الأجور تصل إلى 98,54 مليار دولار، كما أن الأمين العام للمركزية النقابية عبد المجيد سيدي السعيد قد أعلن عن وجود 4 ملايين عامل سيستفيدون من زيادات في الأجور ابتداء من الفاتح جانفي الداخل، تصل إلى 7 آلاف دينار، أي أن كتلة الأجور المضافة ستصل إلى 336 مليار دينار أي ما يعادل 25,4 مليار دولار زيادات سيستفيد منها العمال هذه السنة أثارت قرارات الحكومة انتقادات واسعة من طرف أحزاب المعارضة التي اتهمتها بالفشل في تسيير أموال الدولة في فترة البحبوحة المالية، كيف تعلقون على ذلك؟ أنا من الناس الذين يقبلون بوجود معارضة قوية أمام حكامة رشيدة وتسيير محكم للموارد البشرية والمالية، فلا يمكن أبدا بناء ديمقراطية وخلق نظام سياسي قوي بمؤسساته في ظل وجود معارضة ضعيفة، ولهذا أقول إنه من حق المعارضة أن تنتقد وأن تجد الحلول الناجعة في إطار المؤسسات، لكن ليس من منطلق النظرة الغوغائية بل بحكمة وتبصر، خدمة لتطور عادل وحكيم للعمل السياسي، فأي انتقاد توجهه المعارضة (ولها الحق في ذلك) لا بد أن يبنى على أسس اقتصادية ناجعة. بالمقابل هناك من ربط لجوء الحكومة إلى اعتماد سياسة التقشف، بفشلها في خلق بدائل للمداخيل غير النفط، إلى أي مدى تؤيدون هذا الطرح؟ كل الرؤساء والحكومات التي تعاقبت على تسيير البلاد، كانوا يحملون دوما شعار التخلي عن الاعتماد المباشر على المورد النفطي، والبحث عن موارد أخرى خارج المحروقات التي من شأنها المساهمة في الإنجاز وبناء البلد، صحيح أنه ولحد الآن لا زالت المحروقات تؤسس كل ميزانية الدولة وقيمة الصادرات وصلت إلى 98 بالمائة، معناه ما هو خارج الطاقة لا يتجاوز ال2 بالمائة، الأمر الذي يتطلب من المؤسسات النقدية والمالية خلق وإنشاء مراكز دراسات إستراتيجية في هذا المجال، لاسيما ونحن ما نزال نعاني من تبعية غذائية هيكلية، رغم الأموال التي ضخت في قطاع الفلاحة، بدليل بواخر القمح التي ترسو تقريبا كل أسبوع في موانئنا. في المقابل أتوقع أن تنتعش أسعار البترول خلال السداسي الأول من ,2015 وأن تتجاوز معدل 80 دولار للبرميل، على أساس أن الصدمة التي نعيشها تمس لأول مرة البلدان المصدرة وليس المستوردة للنفط والتي تعد المستفيد الأول والأخير من تراجع أسعار النفط، كما أنه من غير الممكن أن يتواصل تراجع الأسعار لفترة أطول، لأن هذه الأزمة لا تخدم المستهلكين ولا المستوردين ولا المنتجين. في ظل السنوات العجاف القادمة، أكيد ستواجه الحكومة ضغوطا اجتماعية ستحاول المعارضة استغلالها لممارسة مزيد من الضغوط على السلطة، ألا تعتقدون أن السلطة ستكون مجبرة على التوجه نحو انفتاح سياسي أكبر لقطع الطريق أمام المعارضة؟ في اعتقادي رئيس الجمهورية وكما أعلن عنه منذ توليه سدة الحكم في ,1999 في حاجة إلى تغيير دستوري، فبعد التعديلات التي أدخلها على منظومة القوانين بالبلاد سنتي 2002 و,2008 هو الآن على مقربة من تعديل جديد للدستور بعد سلسلة المشاورات التي أدارها كل من عبد القادر بن صالح وأحمد أويحيى، فالكل ينتظر فحوى هذه التعديلات التي سترسّم عبر الأحكام المعدلة لتثبيت المنظور التنظيمي الذي ينظم المؤسسات، في إطار النظام الديمقراطي المتفتح، أين الأغلبية البرلمانية أو الائتلاف يكون مسؤولا أمام الشعب، فحينئذ رئيس الجمهورية الذي يحظى بشرعية حتى ,2019 سيطل علينا بمشروع أحكام دستورية في السنة الجديدة، سواء مرت هذه التعديلات عبر البرلمان أو عبر الاستفتاء الشعبي في حال ما إذا مست التعديلات التوازنات الكبرى كطبيعة النظام الحاكم مما يؤدي إلى إضاءات جديدة، وحينها ستلقى المعارضة مكانة لائقة بإسهاماتها في الطروحات والطروحات المضادة في إطار احترام الرأي والرأي المخالف، وعموما لا أعتقد أن ما نعيشه حاليا فيما يخص انهيار أسعار النفط، ذريعة لجعل الدولة تنصاع إلى آراء المعارضة، والرئيس من حقه أن يعدل الحكومة طبقا للدستور ساري المفعول في أي وقت يراه مناسبا-. ختاما، ما هي المقترحات التي يمكنكم تقديمها من أجل تحصين الاقتصاد الوطني من تداعيات الأزمة النفطية ؟ لا بد من إعادة هندسة استراتيجية طاقوية في الأفاق المستقبلية وخارج منظمة الأوبك، مع ضرورة إعطاء دور آخر لمنتدى البلدان المصدرة للغاز، للتأثير على التوازن العام في السوق الطاقوي والاعتماد على الاستشراف حتى نجنبها أي قلق، خاصة وأن الطاقة تبقى دائما أساس السياسات الوطنية والعالمية، كما يجب الاستفادة من التجربة الأمريكية في مجال استخراج الغاز الصخري للتحضير لكل طارئ، فأمريكا أرادت أن تؤثر على سعر برميل النفط باستغلالها للغاز الصخري، كما استفادت السعودية من قرارها داخل منظمة أوبك بعدم تقليص إنتاجها الطاقوي حتى تجلب إليها بعض الدول على غرار الولاياتالمتحدةالأمريكية، روسيا والصين لاستغلال الغاز الصخري. وعلى العموم فيما يخص وضعنا الوطني، مهما كانت الفرضيات المطروحة في الساحة الدولية، من الصعب جدا على أي خبير في المجال الطاقوي أن يثبت بين عشية وضحاها ارتفاع أو انهيار أسعار النفط لأن ذلك يندرج في إطار إستراتيجية الأمن القومي عندنا وعند الآخرين، ومهما تنوعت مصادر الطاقة يبقى النفط هو أساس كل التحولات في العالم، وعلى هذا الأساس حان الوقت لأن تفكر الجزائر بجدية لمرحلة ما بعد النفط من خلال تنويع صادراتها بالعملة الصعبة، من خلال العمل على تطوير القطاع الصناعي الذي يبقى ضعيفا مقارنة بباقي الدول، حيث يفترض أن يسمو في الآفاق المستقبلية إلى أكثر من 5 بالمائة بالنسبة للإنتاج الداخلي الخام، خاصة وأن إحصائيات إحدى المنظمات الأوروبية أكدت أن بلادنا تصرف مرتين أكثر لتحصل على مرتين أقل.