فرنسا الاستعمارية وحدها من بين قوى الاستعمار الأوروبية الأخرى لم تستشعر رياح المد التحرري الذي اجتاح العالم بعد الحرب العالمية الثانية وتشبثت بامبراطوريتها الاستعمارية إلى أن انتقلت "المعركة" إلى الميتروبول، فأسقطت العديد من الحكومات ووأدت الجمهورية الرابعة وكادت تتسبب في حرب داخلية كل ذلك وفرنسا الاستعمارية تتمسك "بامتداداتها" ما وراء البحار وتغرز مخالبها الوحشية في أجساد شعوب مستعمراتها. واليوم أيضا ما تزال فرنسا الاستعمارية هي الوحيدة التي لا يخجل حكامها ليس فقط من تمجيد الجرائم والفظائع التي ارتكبها أسلافهم بحق الشعوب، وإنما أيضا يسمحون لأنفسهم بالتدخل في الشؤون الداخلية لشعوب أعطتهم دروسا في الكفاح والتضحية من أجل الحرية والاستقلال وعلمتهم كيف يتوجب عليهم احترام إرادة الشعوب وحقها في تقرير المصير. تصريح بيرنار كوشنير الأخير والذي مفاده أن تحسن العلاقات الجزائرية الفرنسية مرهون بزوال الجيل الذي عاش ويلات الاستعمار وحارب فرنسا، إنما يندرج في سياق العقلية الاستعمارية الفرنسية التي عجزت عن إدراك موجة التحرر العالمية من الاستعمار، وها هي اليوم كذلك تفشل في استيعاب معطيات الراهن، حيث تأبى الدولة الجزائرية السيدة المستقلة، إلا أن تتصرف وفق ما تمليه مصالحها وما تستوجبه مقتضيات المسيرة التاريخية للشعب الجزائري. إن تصريح كوشنير إذا ما قرأناه في سياق العقلية الاستعمارية الفرنسية لا يعني سوى شيئا واحدا هو مطلب فرنسا القديم الدائم الذي عجزت عن تحقيقه بالسلاح والقوة الغاشمة وكل أشكال التآمر، أي إنهاء جيل المجاهدين وأبناء الشهداء وقيم ثورة نوفمبر وثوار جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني. عندما يقول كوشنير ويستعجل زوال جيل الثورة، فهو بالحقيقة يتمنى زوال تلك الرموز الوطنية التي تنغص عليهم حياتهم وتسمم وجودهم وتذكرهم في كل حين بجرائمهم. لا نعتقد أن كوشنير يقصد من وراء كلامه شيئا آخر غير هذا، لأنه يعلم ويتابع في فرنسا ذاتها أن الجزائريين من الجيل الثاني والثالث حتى، ما تزال الشعلة الوطنية وقّادة في قلوبهم مع كل ما فعلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة والحكومة الحالية خاصة من أجل إطفاء جذوة الانتماء إلى الجزائر، ويكفي كوشنير أن يفتح قناة التلفزيون أو ينزل إلى الشارع بعد أي مقابلة للفريق الوطني الجزائري ليستخلص العبرة ويراجع موقفه من جيل الثورة وأحفاد بن مهيدي وبن بولعيد وعميروش ولطفي وغيرهم من الشهداء. الصحيح يا سيد كوشنير أن مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية ليس مرهونا بزوال جيل الثورة، بل هو مرهون بتخلي فرنسا عن نظرتها الاستعلائية الاستعمارية لبلد مثل الجزائر، دفع ما يكفي وزيادة من أجل استقلاله وسيادته، وإذا كان السيد كوشنير يعلق المستقبل على الموت وملك الموت، فإن الجزائر من جهتها ترى أن الغد مرهون بمراجعة فرنسا لسياستها وباعترافها بجرائمها وإقرارها بأن الجزائر شريك راشد ناضج يعرف ما يقول ويدرك ما يفعل.