تحل الذكرى الخامسة والخمسون لاندلاع الثورة المباركة في الفاتح من نوفمبر والجدل لم يهدأ بعد حول طبيعة العلاقة بين الجزائروفرنسا، وإشكالية تعقدها وعدم تمكن فرنسا من تجاوز ما لحق بها تلك الليلة عندما كان جيشها الذي "لا يقهر" في غمرة الإحتفال بعيد "كل القديسين" دون أن يتصور و لو للحظة أن ذلك التاريخ سوف يتحول - في ذاكرة فرنسا - من عيد لكل القديسين إلى عيد لكل الاحتمالات، وبدلا من أن تسعى فرنسا إلى إيجاد صيغ جديدة للتعامل مع الجزائر بعيدا عن العقلية الكولونيالية، راحت تقنن عقيدتها الاستعمارية بترسانة من القوانين والإجراءات التي زادت من تعقيدات علاقة ولدت أصلا معقدة. لقد حاولت بعض الأطراف في فرنسا من ساسة ومثقفين ورجال أعمال على مدى العقود الماضية أن تعمل على "تطبيع" العلاقات بين البلدين على أساس احترام المصالح المشتركة، ولم يكن بالإمكان طيلة هذا الوقت الحديث عن علاقات ودية أو أكثر من ذلك، لكن حتى هذا المستوى كان من الصعب تحقيقه بسبب عدم جدية الطرف الفرنسي في الانتقال من مرحلة الحقد والكراهية والتأسف على الفردوس المفقود إلى مرحلة التعاون المشترك، وذلك بالرغم من حجم المصالح التي تحققها فرنسا مع الجزائر. المؤسف في سلوك الطرف الفرنسي أنه كلما تحقق بعض التحسن في العلاقات كلما تراجع خطوات للوراء بسبب استعداد العديد من الأطراف الحالمة باستعادة الجزائر، أو على الأقل بقائها في حالة التبعية، لإقامة ذلك النوع من العلاقات. وقد وظف اليمين الفرنسي وأيضا بعض اليسار، كل الوسائل المتاحة سياسيا وإعلاميا وثقافيا وديبلوماسيا لعرقلة أي نوع من أنواع التقارب الجدي، على الأقل بالنسبة للشعبين، أما على الصعيد الرسمي فالموضوع مختلف لأن هناك الكثير من المسؤولين الجزائريين -للأسف- الذين يدينون بالولاء لفرنسا ويعملون على استمرار هذه التبعية. فرنسا لم تكتف بالسلوكيات التقليدية التي عملت بها منذ الاستقلال لتحقيق العديد من أهدافها في الجزائر، بل انتقلت إلى مرحلة سن القوانين التي ترسخ الفكر الاستعماري كمرحلة تقدمية وحضارية، في الوقت الذي كنا ننتظر منه الاعتراف والاعتذار، كما فعلت كل الإمبراطوريات الاستعمارية في العالم، سواء تعلق الأمر بأمريكا أو بريطانيا أو ألمانيا، و أخيرا إيطاليا التي لم يخجل رئيسها من طلب الاعتذار من ليبيا على جرائم الاستعمار الايطالي، معتبرا أن هذه الخطوة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تجاوز أحقاد الماضي وإنصاف الشعب الليبي ولو رمزيا. وحدها فرنسا تعتبر أن سلوكها الاستعماري كان نعمة لم يقدرها الجزائريون، هي لا ترى أية ضرورة للاعتذار أو الاعتراف بالخطأ، ناهيك عن تصحيح تلك الأخطاء وتعويض أصحابها. الأهداف التي كانت تريد فرنسا تحقيقها في الجزائر هي تكفير الشعب الجزائري باستقلاله وتركيعه اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، حتى تجد كل المبررات لعدم الاعتذار أو الاعتراف بالخطأ، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هناك من الجزائريين من عمل على تحقيق بعض من أهدافها تلك عندما لم يثمّنوا قيمة الاستقلال كإنجاز تاريخي قادر على صياغة برنامج تنموي وفكري أعظم من قيم الثورة الفرنسية التي يتغنى بها الفرنسيون، وذلك عندما استبعدوا من سلوكياتهم كل قيم وثوابت ثورة نوفمبر من تضحية ونكران للذات واستقامة وتمسك بهوية وقيم الشعب. قوانين لتمجيد الاستعمار بدلا من الاعتذار ولما أخفقت فرنسا في وضع جبهة التحرير الوطني في المتحف وفي تلطيخ سمعة المجاهدين الحقيقيين وفي تغيير هوية الشعب، زادت رعونتها وجبروتها لدرجة سن قوانين تمجد الاستعمار وتعيد الاعتبار للحركى، وتطالب بحقوق المعمرين والأقدام السوداء في الجزائر، وأكثر من هذا تريد -عبر قصة إعطاء الجنسية للجزائريين المولودين قبل 1962 - استرجاع "شعبها" تمهيدا لاسترجاع أرضها.. لم لا!؟ عندما كان الحديث عن تمجيد الاستعمار والإطناب في إنجازات فرنسا الاستعمارية بالجزائر من طرق ومساكن -وكأنها أقامتها للشعب الجزائري؟- محصورا في الكتب والمقالات الصحفية والأفلام والحصص والتصريحات الرسمية، كان الأمر مقبولا على أساس أن فرنسا كانت ولا تزال عدوا بالرغم من كل هذا الوقت، لكن عندما صادق البرلمان الفرنسي على قانون 23 فيفري 2005 الذي تتكلم مادته الرابعة عن واجب تدريس "الدور الإيجابي للتواجد الفرنسي ما وراء البحار بالأخص في شمال إفريقيا"، قفز الموضوع إلى ما يشبه إعادة إحياء الفكر الاستعماري بشكل رسمي، من خلال تشكيل ذاكرة فرنسية تمجد الاستعمار وتتجاهل ويلاته على الشعوب، في حين كان المفروض أن تصحح الكثير من الإدعاءات الموجودة في الكتب المدرسية بدلا من إضافة أكاذيب جديدة.• أكثر من هذا يقول القانون في مادته الأولى: "تعبر الأمة الفرنسية عن عرفانها للنساء والرجال الذين شاركوا في المهمة التي أنجزتها فرنسا في مقاطعاتها السابقة بالجزائر وتونس والمغرب والهند الصينية، وفي كل البلدان التي كانت تحت السيادة الفرنسية، وتعترف الأمة الفرنسية بالآلام التي كابدها والتضحيات التي بذلها المرحلون، والأعضاء السابقون في التشكيلات الإضافية والمدمجون والضحايا المدنيون والعسكريون خلال الأحداث المتعلقة بمسار استقلال هذه المقاطعات، وتعرب لهم ولعائلاتهم بصورة علنية عن عرفانها". طبعا هذا النص لا يحتاج إلى شرح، ففرنسا - وإن كان من حقها الاعتراف بجميل أبنائها عليها - لا تولي أي اهتمام لآلام وتضحيات ومآسي الشعوب التي كانت تحت الاحتلال، فالنابالم الذي أحرق الجزائريين والفيتناميين لا تهمها، والتجارب النووية التي لا تزال تشوه وتقتل الجزائريين من فقر وجهل ومجاعات وأوبئة وحقوق مسلوبة ومجازر جماعية، كل هذا ليس له أي اعتبار. القانون لم يكتف بتمجيد الاستعمار، بل قامت جمعية فرنسية منتمية لهذا الفكر بإقامة نصب تذكاري بمقبرة مارينيان للإشادة "بالمعدومين والمقاتلين الذين سقطوا من أجل أن تحيا الجزائر فرنسية"، هذا النصب هو صفعة أخرى تقدمها فرنسا لكل جهود تطبيع العلاقات بين الشعبين الجزائري والفرنسي. الخطورة لا تكمن في اعتزاز فرنسا بجنودها ورجالها ونسائها و"بمنجزاتها" في الجزائر، بل تكمن في أن فرنسا لا تزال تؤمن بالعقلية الاستعمارية بكل أشكالها، بمعنى أنها لا تعتبر الاعتداء على الشعوب واستباحة أعراضهم وأرزاقهم وإذلالهم وطعنهم في لغتهم ودينهم -كما فعلت- انتهاكا لحقوق الإنسان في هذا الزمن الذي تدعي فيه القوى الغربية أنها حامية حقوق الإنسان. لقد كان الأجدر بفرنسا لو أنها جادة في طي صفحة الماضي - كما يكرر دوما مسؤولوها- أن تنشىء عقلية فرنسية جديدة قائمة على الاعتراف بالذنب وبالجريمة ومحاولة تصحيح تلك الأخطاء، لكن أن تسن قانونا يلزم التلاميذ في المدارس بتجميد الاستعمار والاعتزاز بماضي فرنسا الاستعماري، خاصة في الجزائر، فإن ذلك لا يختلف عما يقوله اليهود بشأن موضوع المحرقة، هذا مع الإشارة إلى أن فرنسا الساركوزية سنت قانونا يلزم كل تلميذ فرنسي بتبني إسم طفل يهودي كان من ضحايا المحرقة، أما أطفال الجزائر الذين أحرقهم النابالم والقنابل فلا داعي حتى لذكرهم!؟ وتواصل فرنسا حملتها "لتأديب" الجزائريين، عبر الإعلان عن تأسيس هيئة خاصة ب "حرب الجزائر"، وهي العبارة التي تستعملها فرنسا دوما، في حين أن الأمر يتعلق بثورة تحريرية قام بها شعب أعزل ضد فرنسا ومعها الحلف الأطلسي، هذه المؤسسة التي رصدت لها 7 ملايين يورو سنويا تعنى بشؤون الحركى، هذه الهيئة مندرجة في إطار تجسيد بنود قانون 23 فيفري 2005 وتكمن مهمتها الأساسية في كتابة تاريخ هذه الفئة التي باعت الوطن والدين وتحالفت مع المستعمر مقابل مزايا زهيدة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركى عوملوا بالاحتقار والازدراء، وقد وضعوا في معتقلات حقيقية محاطة بالأسلاك الشائكة، وكانت السلطات الفرنسية تفرض عليهم عدم الاختلاط مع الفرنسيين وهو ما أدى إلى ظهور حركات سياسية من أبناء الحركى خاصة الجيل الثالث الذين طالبوا بتحسين أوضاعهم والاعتراف بجميل آبائهم على فرنسا. وهن الموقف الجزائري وراء تعنت فرنسا المفارقة في موضوع العلاقات الجزائرية الفرنسية أن التقدم الذي حصل مؤخرا بفضل نضال العديد من الأطراف الجزائرية والفرنسية أيضا، والذي ترجم في بعض العبارات المتحدثة عن بشاعة ما حل في 8 ماي 1945 ( كما قال السفير الفرنسي السابق) أو بعض الكلمات التي تلفظ بها الرئيس ساركوزي خلال زيارته للجزائر، والتي وإن لم تصل إلى مستوى الاعتراف بالخطأ إلا أنها يمكن أن تعبر عن بعض التطور، هذا التقدم صاحبه تقنين مخز للاستعمار من خلال قانون العار المذكور سابقا أو ما صاحبه من إعادة الاعتبار للحركى ومطالبة الأقدام السود والمعمرين مؤخرا بالجنسية الجزائرية كرد فعل على إشاعة بعزم فرنسا منح الجزائريين المولودين قبل 1962 الجنسية الفرنسية. هذه الإشاعة إن ثبتت صحتها تعتبر استمرارا لبنود وعقلية وفكر قانون 23 فيفري الذي يعتبر الجزائريين المولودين قبل 1962 فرنسيين لأنهم ولدوا تحت العلم الفرنسي وكأنهم اختاروا ذلك؟، أما فيما يخص الأقدام السود الذين يطالبون بالجنسية الجزائرية فالأمر لا أساس قانوني له، لأن الجزائر بكل بساطة لم تكن دولة مستقلة لأنها كانت تحت الاحتلال، كما أن الجنسية الجزائرية لم تكن آنذاك موجودة حتى يستعيدها هؤلاء! طبعا فرنسا لا ترمي وراء هذه الإشاعة - التي لم تؤكدها فرنسا ولم تنفها - إلى خدمة الجزائريين، بل الهدف الحقيقي منها هو استمرار العمل بعقلية الإستعمار لا غير. كما أن موضوع التجارب النووية فتح مؤخرا بفضل بعض الأقلام الفرنسية الشريفة وبعض الجهود الجزائرية التي لم تتجاوز المستوى الإعلامي وبعض أعضاء الأسرة الثورية الذين لم تلههم إغراءات الدنيا عن التمسك بروح نوفمبر والنضال من أجل استكمال رسالة نوفمبر. هذه الجهود أدت إلى تبني الحكومة الفرنسية تدابير قانونية متعلقة بتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، وهي التدابير التي ستدخل حيز التنفيذ قبل انتهاء السنة الجارية، غير أن هذه التدابير - على الأقل في المرحلة الراهنة - لا تشمل كل الآثار المدمرة لتلك التجارب، وقد خصت أعدادا قليلة من المتضررين، لكن ومع ذلك يمكن اعتبارها خطوة أولى لابد من أن يتبعها الضغط الضروري لإرغام فرنسا على الاعتذار والاعتراف بجرائمها وتقديم التعويضات الملائمة وإرجاع الكنوز المسروقة من الجزائر. لقد أدت الجهود المبذولة لحد الآن من قبل الأسرة الثورية وبعض المثقفين الجزائريين إلى تعطيل التوقيع على معاهدة الصداقة الجزائرية - الفرنسية، التي تريدها فرنسا دون تقديم أي اعتذار أو وعود حقيقية لتجاوز الماضي، فرنسا تريد من الجزائريين أن يصفحوا وينسوا تاريخ ثورتهم، في وقت تشن فيه أجهزتها حملات شنعاء منذ 1945 ضد كل من كان له علاقة بالنظام النازي من قريب أو من بعيد، وحتى أبناء المتعاونين مع النازية يحاصرون في كل مكان ولا يسمح لهم بتقلد المناصب الحساسة، في حين تطالب الجزائر بالصفح عن الحركى وأبنائهم وإدماجهم في المجتمع الجزائري حتى دون أن يعترفوا بخطئهم في حق بلادهم. في هذا الصدد نذكر بأن الرئيس بوتفليقة طالب فرنسا مرارا بالاعتراف بجرائمها في الجزائر والاعتذار عنها، إن هي أرادت التوقيع على تلك المعاهدة وتطبيع العلاقات، لكن فرنسا رفضت كل ذلك وراحت تضغط بشتى الطرق لابتزاز الجزائر، وهو ما أدى إلى الفتور الذي نلاحظه في علاقات البلدين وتأجيل زيارة الرئيس بوتفليقة مرارا لباريس. المشكل في هذه القضية وبكل موضوعية، ليس تعنت فرنسا أو تمجيدها لرجالها الذين خدموها، فهذا يمكن اعتباره شأنا داخليا، المشكل في وهن الموقف الجزائري الذي - ولأسباب عديدة - لا يريد فتح ملف العلاقات الجزائرية - الفرنسية، خاصة في جانبها التاريخي، وهذا ما يفسر تقاعس الجانب الجزائري عن مطالبة فرنسا بالأرشيف الحقيقي، الذي يفضح الكثير ممن يتحكمون في مصير الشعب مع أنهم لا يستحقون ذلك! المسؤولون الفرنسيون لطالما رددوا عبارة أن "لا أحد من المسؤولين الجزائريين طالبهم بتقديم التعويضات أو الأرشيف؟! وعندما نعلم بأن الخطاب السياسي لبعض الأوساط الجزائرية - كما يقول الدكتور حربي - يتسم بنوع من التردد إزاء فكرة انتماء الجزائر إلى العالم العربي، ولا أدل على ذلك من نظرتهم لمسألة التعريب، ندرك سبب هذا الوهن في الموقف الجزائري. في هذا الشأن يقول الدكتور حربي : "فرنسا بحكم التاريخ والجغرافيا تلعب دور المستمع في النزاعات الداخلية الجزائرية، كل الأطراف المتنازعة في الجزائر تتصارع بالظفر بإنصاتها، صحيح أن الجزائر دولة مستقلة، غير أنها لم تتمكن من فصل مشاكلها الداخلية عن علاقاتها الخارجية". الكرة في الملعب الفرنسي لو حاولنا قراءة مستقبل العلاقات الجزائرية - الفرنسية لوجدنا أنه من الصعب الحديث عن تطبيع حقيقي لها في ظل تنامي الفكر الاستعماري والعنصري في فرنسا، فلقد دلت عملية سبر الآراء قامت بها جريدة لوفيغارو إلى أن 66.4 % من الفرنسيين يؤيدون قانون 23 فيفري، كما أن ما شهدته الجزائر من سنوات العنف والإرهاب واستشراء الفساد وأخبار نهب المال العام، كل هذا أدى إلى نفخ الروح في أحلام المعمرين والأقدام السود وبقايا الإستعمار الفرنسي، وبالتالي فقد صارت هذه المجموعات المهزومة إبان الثورة التحريرية تعتقد اليوم أنه بات بإمكانها الإنتقام من الشعب الجزائري واستقلاله. في خضم كل هذا الجدل نتساءل، هل يمكن أن نتصور يوما أن يصل البلدان إلى علاقة طبيعية تقوم فعلا على الإحترام المتبادل أو المصالح المشتركة؟ يسعى بعض الفرنسيين من مؤرخين وخبراء وساسة ومثقفين إلى إيجاد أرضية مشتركة تقوم أساسا على قراءة التاريخ قراءة موضوعية، لكن المشكل في هذه القراءة أنها تسوي بين الضحية والجلاد، بعبارة أخرى تركز على الأبعاد الإنسانية لمأساة الإستعمار، دون الذهاب إلى الأسباب الحقيقية لكل تلك المآسي والتي كانت تحمل عنوانا واحدا وهو الإستعمار• في هذا السياق يقول المؤرخ الفرنسي المختص في التاريخ الجزائري بنجامين ستورا : "أعتقد بأن فرنسا لم تشهد عملية تصفية استعمار في عقول الفرنسيين، لكني متأكد بأن فرنسا الحالية ليست استعمارية". قد يكون هذا الكلام صحيحا ولكن قيام فرنسا بتقنين جريمة الإستعمار والإشادة برموزه في الجزائر لا يعبر عن وجود عقول استعمارية كما يقول ستورا، لكن عن وجود قيادات سياسية وتنفيذية وتشريعية في فرنسا لا تزال حاقدة على الجزائر وحاملة للفكر الإستعماري.