لا ينكر اثنان أن ثورة نوفمبر 1954 وسيرورة أحداثها كانا سببا مباشرا في استقلال العديد من الدول الإفريقية وخاصة تلك التي كانت خاضعة للهيمنة الاستعمارية الفرنسية. وفرض ثوار جيش التحرير على ارض المعركة والتحركات السياسية لقيادة جبهة التحرير الوطني في مختلف العواصم الدولية منذ تلك الانطلاقة منطقا مغايرا للفكر الاستعماري الذي وجد نفسه أمام معطيات طارئة غيرت مجرى التاريخ المعاصر وفتحت باب الاستقلال والتحرر على مصراعيه أمام الشعوب المضطهدة والتي وقعت ضحية منطق الهيمنة الذي فرضته القوى الأوروبية منذ مؤتمر برلين سنة 1878 الذي اقتسمت خلاله الدول الأوروبية مناطق النفوذ في قارات جنوب الكرة الأرضية. فقد كان لاندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد اكبر قوة استعمارية عرفها العالم وقع على حركات التحرر الإفريقية واللاتينية وحتى الآسيوية بعد أن أعطتها دفعا وتشبثا لمواصلة مطالبها في الاستقلال والحرية. فقد أرغمت ثورة نوفمبر المحتل الفرنسي على تركيز اهتمامه سياسيا وعسكريا على ما يجري في الجزائر التي كانت الأدبيات الاستعمارية تعتبرها امتدادا إقليميا لفرنسا من خلال الترويج لفكرة " الجزائر فرنسية"، مما اضطرها لمنح الاستقلال لعشرات الدول الإفريقية التي كانت ضحية نظام استعماري مقيت، لتتفرغ لما هو جار فوق ارض حلم الفرنسيون ومازالوا بأن يجعلوا منها عمقا استراتيجيا لبلدهم في أغنى قارة. وكان مؤتمر باندونغ في افريل سنة 1955 في اندونيسيا بمثابة نقطة التحول الكبرى في كفاح حركات التحرر العالمية خمسينيات القرن الماضي وشكل المنعرج الحاسم في كتابة التاريخ العالمي المعاصر عندما زادت المطالب الاستقلالية في مختلف الدول المضطهدة وأكد في بياناته النهائية على حتمية استقلال الدول المستعمرة في العالم والمغرب العربي تحديدا. وكان وهج الثورة الجزائرية التي انطلقت عاما قبل ذلك بلغ أوجه ولم تجد السلطات الاستعمارية الفرنسية حينها من وسيلة للإبقاء على سيطرتها على الجزائر سوى مخرج واحد وهو تمكين مستعمراتها الإفريقية من الاستقلال الذي منحته مكرهة للمغرب وتونس على أمل أن لا تضيع منها الجزائر ويمكنها ذلك من تركيز جهدها العسكري على ما يجري فيها. والى حد الآن فإن العديد ممن صنعوا أمجاد شعوبهم في مختلف الدول الإفريقية لا ينكرون فضل الثورة الجزائرية في تسريع استقلال بلدانهم بعد أن اقتنعت الجمهورية الرابعة المتهالكة في فرنسا بحتمية التضحية بكل مستعمراتها الأخرى بهدف الاحتفاظ بالجزائر ضمن منطق استراتيجيتها بجعلها امتدادا حيويا لإقليمها على الصعيدين العسكري والاقتصادي وبما يمكنها من البقاء كقوة عظمى قادرة على صد الزحف الأمريكي والسوفياتي المتنامي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. ولأن كفاح الشعب الجزائري كان مشروعا فقد لفت اليه انتباه العديد من القوى الفاعلة على الساحة الدولية واستأثرت باهتمام الرئيس الأمريكي جون كيندي الذي طالب باستقلال هذا الشعب ووضع حدد للهيمنة الفرنسية على بلاده. وإذا كان موقف الرئيس الأمريكي المغتال أملته مصلحة الدولة الأمريكية الفتية الخارجة هي الاخرى من حرب عالمية مدمرة فإنه جاء ليؤكد حينها اتساع رقعة صدى الثورة الجزائرية في كل العالم. وكانت القضية الجزائرية أدرجت لأول مرة على طاولة هيئة الأممالمتحدة كقضية تصفية استعمار من طرف الصين الشعبية خلال الدورة العاشرة للجمعية العامة الأممية سنة 1955 . ويجمع المؤرخون بسبب ذلك على أن الثورة الجزائرية كانت من بين أكبر الثورات التي غيرت مجرى التاريخ الإنساني تماما كما هو الشأن بالنسبة للثورة الفرنسية والصينية والثورة الفيتنامية، كانت سببا مباشرا في هلهلة قوة فرنسا الاستعمارية والتشكيك في قوتها كدولة فاعلة في ساحة عالمية بدأت معالمها ترسم بمعطيات جديدة طغى عليها صراع إيديولوجي شيوعي رأسمالي بقيادة سوفياتية أمريكية. وإذا كان تأثير الثورة الجزائرية مباشرا على دور الدول الاستعمارية التقليدية في صنع السياسة العالمية بعد أن أعطت دفعا لمختلف الحركات التحررية للتمسك بمطالب شعوبها الاستقلالية، فإن الدولة الجزائرية المستقلة سنة 1962 أبقت على هذا الدعم بل إنها تحولت إلى قبلة لحركات التحرر التي لم يكتب لها الاستقلال آنذاك. ورغم أن موقف الجزائر وضعها تحت ضغوط القوى الاستعمارية إلا أن ذلك لم يثنها عن مواصلة مسيرتها ومازالت تفعل كذلك رافضة كل مقايضة لمبدأ دعمها لاستقلال الشعوب وتقرير مصيرها وجعلت من ذلك أحد مبادئ سياستها الخارجية. ولا أدل على ذلك من موقفها الثابت من كفاح الشعب الصحراوي وتمسكها بنصرة قضيته إلى غاية تقرير مصيره عبر استفتاء حر ونزيه. وقبل ذلك دعمها غير المشروط للقضية الفلسطينية التي رفضت من أجلها كل الحلول الوسط ما لم يستعد الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله. وهي القناعة التي جعلتها ترفض كل المساعي الداعية إلى تطبيع العلاقات مع المحتل الإسرائيلي ما لم يسترد الشعبان السوري واللبناني أراضيهما المحتلة في الجولان و مزارع شبعا.