أقبل ضحى ذات جمعة موافقا للتاسع عشرة من شهر مارس، المقرون بعيد النصر المبارك، وأقبلت معه الحياة تبتسم بجو ربيعي بهيج، وبدت الوجوه التي شحبت وكئبت من الإعداد والتحضير فرحة مستبشرة هنيئة . تترنم حين أيقنت أن النصر آت مع هذا الموعد العظيم . وتسابق من اكتظوا في الزمان والمكان أمام الأبواب وعبر الممرات، في الخيم، وفي المجلس البيضاوي يهنئون بعضهم بعضا، وكلهم جود بالرضا على بعضهم بعضا، شوقا منهم للّقاء، وحنينا فضلوا فيه الوصال على النوى . وبأنفاس عطرة زكية تابعوا فعاليات أسرار أشغال أيامهم الثلاثة التي كانت بلطافة من حضر من الأشقاء والأصدقاء، وبنغم كلماتهم تنعم. في ملامسة جديدة للموضوع، لا أريد أن أنزل منزلة أحد، ولا أريد أن أحمل وزر أحد، ولا أريد أن أحكم حكم أحد، وتلك سنة احترام الرأي الآخر، وديدن الكلمة الحرّة، وسبيل السلوك الديمقراطي . إلا أنه من حقي أن أقدّم قراءة على رأي المجتمع، دون مراعاة ما يصدر عن عناصره المستفيدة بطريقة أو بأخرى، ولا المحرومة لسبب أو لآخر، إنما عبر وجهات نظر محايدة، تابع أصحابها أشغال المؤتمر التاسع لحزب جبهة التحرير الوطني، واهتموا بها أيما اهتمام، كون الحدث المحطة المُبرزة لقوة الدولة أو لضعفها، قياسا بالتماسك العضوي الحاصل بين الحزب وبين السلطة، سواء اعتمد المحللون على الارتباط التقليدي، الذي لم تنفصم عراه أو اعتمدوا على ما يحظى به هذا التماسك من مقام في الصدارة، الذي أهل الحزب لأن يبقى القوة الأولى المؤثرة في الدوائر الحكومية وبخاصة المركزية منها . إنها متابعة الرأي العام الوطني وانشغالاته التي جعلت الزمن يتوقف، لأن تبقى حرارة الحديث عن المؤتمر التاسع متواصلة تشغل الجميع وتغطي ما دونها من وقائع وأحداث . وهي الظروف المتاحة والمعطيات المتوفرة السائدة حتى اليوم، التي دفعت بي لأن أعود إلى الموضوع مجددا، وللمرة الثالثة على التوالي، تفاؤلا، إحكاما ، ورصداً. وفي الرصد ما يقوله المواطنون الذين لم يلتحقوا بالانتماءات السياسية، ولا التحفوا بسماء مشاعر أطيافها ... إنما هم مثل القضاة والحكام يديرون أعمالهم وتأذن مطارقهم بما توفر لديهم من إثباتات، وتلوح صفاراتهم على ما يشاهدون من أداءات تمارس أمام أعينهم. هو واحد من هؤلاء، وما هو سوى حارس موقف للسيارات، اتخذتُه كأنموذج لسلامة فكره وطهارة سريرته، وبراءة أقواله، مقتنع بوضعه، سعيد بحاله ... لا يعرف التملق والتزلف إليه طريقا لأنه لا يرغب في أكثر مما هو عليه . اعترض طريقي وأوقفني بالعفوية المعهودة عند نظرائه وباقتضاب قال: انتهى جمعكم، وانفض عرسكم بنجاح ... لقد حسدوكم على ما حققتم وأنجزتم ... لقد تركتم بأرواحهم ناراً تتضرم، وبقلوبهم حسرة تؤلم، وفي أحشائهم أسىً يؤرق، وبين صفوفهم نكد عيش ... إنهم ضد الصلح والمصالحة، خصوم للم الشمل وجمع اللحمة، أعداء للأخوة والمحبة ... لكنهم قلة قليلة، وعن قريب سينتهون ... !؟