لقد شكل العالم العربي الإسلامي بالنسبة للجزائر، منذ عدة قرون، امتدادا حضاريا وعمقا استراتيجيا ، وبعد أساسيا ،فقبل قدوم العثمانيين إلى بلادنا، لم تكن هناك حدودا مرسومة، أو حواجز قائمة ، أو رسوم جمركية مفروضة، بل ظلت بلدان العالم العربي تكون بالنسبة للمسلمين وطنا واحدا، يقيمون فيها بدون أية قيود، ويتنقلون في أرجائها، بكل حرية ومن غير أية عوائق تذكر. وبعد غزو بلادنا من طرف جيش الاحتلال الفرنسي في سنة 1830، وبدأ القمع والاضطهاد بشتى أنواعه يسلط على الجزائريين، فكانت وجهات هجرة الفارين من نير الاحتلال، هي في الغالب، تونس، والمغرب، والقاهرة، والإسكندرية والشام، والحجاز، وتركيا، وبالنسبة للانتفاضات والثورات، التي ظلت مشتعلة طيلة القرن التاسع عشر، فإن قادتها ونشطاءها عندما يفشلون أمام جحافل فرنسا، كانوا ينسحبون إما إلى تونس أو إلى المغرب، وهكذا كان قادة ثورة سيدي الشيخ، بالجنوب الغربي ينسحبون إلى المغرب، والأمير عبد القادر وحاشيته هاجروا بعد الإفراج عنهم من سجون فرنسا إلى الشام، والحسن بن عزوز وقادة ثورات الأوراس والجنوب الشرقي لاذوا بتونس، بل إن الحسن بن عزوز الطولقي، أقام بنفطة بالجنوب التونسي زاويته التي كانت ملجأ وملاذا آمنا لكل الثوار الفارين من ملاحقات القوات الفرنسية، وظل الشأن هكذا إلى حين اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954. باغتت قيادة جبهة التحرير الوطني، فرنسا، بتفجيرها للثورة، وأخذتها على حين غرة، وعجزت مصالح استخباراتها أن تحدد في البداية، هوية الواقفين وراء عمليات ليلة الاثنين 1/11/1954، ولو أنها رجحت أن يكون مناضلو حركة الانتصار، للحريات الديمقراطية، حزب الشعب الجزائري) P.A M.T.L.D.P.) هم الفاعلون، وشرعت مباشرة في حملة اعتقالات واسعة لكل عناصر تلك الحركة، غير أن الصحافة الفرنسية الصادرة في الأيام الأولى للثورة،كانت تشير بأصابع الاتهام إلى الفلاڤة التونسيين، الذين قدموا إلى الجزائر لإشعال لهيب العنف، وإثارة الشغب بها، وتعكير صفو المستعمرة الآمنة الهادئة المطمئنة، لكن بمرور أيام قليلة، عرفت فرنسا بأن مفجري الثورة، هم بالضبط الجناح المنشق عن الطرفين المتصارعين في حزب الشعب، وهم قادة جبهة التحرير الوطني، وعرفوا أن هؤلاء مدعومون أساسا من طرف نظام ناصر بالقاهرة، التي استقر منذ بدية الخمسينيات فيها، ثلاثة عناصر من أبرز قادة هذه الثورة، وهم الرئيس بن بلة و محمد خيضر، وآيت أحمد الحسين، وشرع الإعلام الفرنسي في شن حملات مسعورة على القاهرة ونظام الرئيس ناصر، وإمعانا منها، في النيل من الثورة المباركة، كانت تصفها أيضا، بأنها حركة شيوعية مدعومة أيضا من موسكو و بودابست. وعندما حمى وطيس المعركة، واشتد ساعد الثورة، وتوسعت وتمددت، وتصاعدت من جهة أخرى حدة القمع الفرنسي، استقرت قيادة الثورة أساسا في تونس والمغرب والقاهرة، وتأسست بعثات دائمة في كل العواصم العربية والإسلامية، لكن العبء الأكبر وقع على تونسوالقاهرة والمغرب، ففي تونس والمغرب، استقر مئات الآلاف من المهاجرين الجزائريين، وبهما تكونت قواعد الإمداد والإسناد، ومدارس التدريب والتكوين، ومخازن الأسلحة ومراكز الدعاية والإعلام والمستشفيات للعلاج، وبمصر تدرب جنود وضباط جيش التحرير الوطني في أنشاص والإسكندرية، وفي المغرب تأسس أول مصنع للرشاشات الحربية، وفي وجدة وتطوان والناظور، كانت تتمركز قياداتنا، وتعسكر وحدات جيشنا الفدى، وعلى امتداد العالم العربي الإسلامي، كانت تسير المظاهرات و تجمع التبرعات ويعزف نشيد قسما، تأييدا و مساندة لثورة المليون ونصف شهيد، أقول هذا الكلام، بعد أن استغلت بعض الأقلام الحاقدة، مقطعا مبتورا من سياقه، في محاضرة ألقاها المجاهد الكبير والقيادي البارز في وزارة التسليح والاتصالات العامة ) MALG ( الوزير دحو ولد قابلية، أمام الأساتذة الباحثين في التاريخ، بمتحف المجاهد بالجزائر العاصمة، في جلسة شبه مغلقة، وهذا المقطع يخص شحنة أسلحة قوامها 5000 قطعة، أهداها المرحوم المغفور له جلالة السلطان محمد الخامس إلى الثورة وأبى ولي عهده تسليمها، إلا بعد قبض مقابل مالي عليها، لقد استغل البعض هذا القول المبتور، للتحامل على أشقائنا وأخوتنا العرب تقليلا وتقزيما لدورهم الداعم المساند للثورة المباركة، بل بعضهم كتب يقول متهجما حاقدا "انتظرنا نحو نصف قرن لنكتشف حقيقة أخوة النفاق". إن ثورتنا المظفرة لمن يكرس ثقافة النسيان، لم تدم ساعة أو يوم أو شهر أو عام وإنما دامت 7 سنوات ونصف، أي ما يساوي 2694 يوما، وما يعادل بالساعات 64656 ساعة. فإذا لم يكن إخواننا العرب والمسلمون، هم الذين آوونا ونصرونا وقدموا لنا كل أشكال الدعم والمساندة، سيما في السنين الأولى من جهادنا، فمن يا ترى ساعدنا وفتح لنا حدوده ومدنه، فهل من باب العرفان بالجميل،والاعتراف بحسن الصنيع أن نتناسى، أنه في القاهرة، كانت تستقر لجنة تحرير المغرب العربي، وبها تقيم بعثة جبهة التحرير الوطني، وعلى أمواج إذاعة صوت العرب، تلي لأول مرة البيان الخالد، بيان أول نوفمبر، وفي ميناء الإسكندرية عبء يخت الملكة دينا بالأسلحة، وعلى ظهره، سافر الراحل هواري بومدين، في اتجاه سواحل المغرب، ومنه كذلك شحنت بالأسلحة باخرة أطوس، التي احتجزتها القوات الفرنسية، في عرض مياه المتوسط، ثم ألم تكن القاهرة، هي التي شهدت انعقاد أول مؤتمر للمجلس الوطني للثورة الجزائرية بعد مؤتمر الصومام، وذلك في شهر أوت 1957، ثم أنه بالقاهرة تشكلت أول حكومة لنا، وبالقاهرة أيضا لحن الموسيقار العبقري محمد فوزي، نشيدنا الخالد، قسما بالنازلات الماحقات، وهل ننسى بأن فرنسا تواطأت مع بريطانيا وإسرائيل لضرب مصر في سنة 1956 لقطع المدد والإسناد عن الثورة الجزائرية ، وهل يحق لنا كذلك أن نتناسى بأن أول دخول للقضية الجزائرية، للأمم المتحدة في سبتمبر1955، كان بطلب من المملكة العربية السعودية، وأن دبلوماسيينا كانوا يدخلون إلى مبنى الأممالمتحدة، طيلة سنوات الثورة كأعضاء في الوفد الرسمي السوري وبجوازات سفر دبلوماسية سورية، وهل لنا أن ننسى المرافعات الرهيبة التي كان يجلجل بها المرحوم أحمد الشقيري، في قاعة الجلسات، بمبنى الأممالمتحدة بنيويورك دفاعا عن القضية الجزائرية، ومن يراجع جدول أعمال الجمعيات العامة بالأممالمتحدة بدءا من سبتمبر 1955، فسيعرف بالتأكيد، من كان يصوت لصالحنا ومن كان ضدنا. إن كل جلسات التصويت التي شهدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل جلسة ديسمبر 1961 كان لا يصوت لصالحنا إلا إخوتنا العرب والمسلمون، بدون استثناء وأغلب دول عدم الانحياز، وغالبية دول المعسكر الشيوعي، أما الغربيون فقد ظلوا ثابتين ضدنا إلى غاية جلسة ديسمبر 1961، أين أقر دوقول تقرير المصير للشعب الجزائري، وفي هذه الجلسة تغيرت مواقف، أغلب الدول الأعضاء بالأممالمتحدة آنذاك. إن شحنة أسلحة ب 5000 قطعة، لا يمكنها أن تكون كالشجرة التي تغطي الغابة، فالثورة المباركة،لم تكن ثورة ملائكة وأنبياء، بل كان قادتها بشر غير معصومين، والأمر نفسه ينطبق على قادة الدول الشقيقة فالتجاذب والرغبة، في الاحتواء كانت قائمة، والتوجه الإيديولوجي كان موجودا حتى داخل قيادات الثورة ،فهذه القضايا جد طبيعية، سيما عندما يتعلق الأمر بثورة عملاقة إشعاعها جد عظيم، وتأثيرها لا محدود تجاوز أفق العالم العربي الإسلامي، إلى الأفاق الإفريقية والأسيوية وأمريكا اللاتينية، ثم أنه لاننسى أن وجودنا المكثف والقوي سيما في تونس، حيث مقر حكومتنا وقواعد جيشنا ومراكز تدريب قواتنا ومخازن أسلحتنا، كان يسبب في كثير من الحالات مشاكل لإخواننا في تونس، الذين كانوا بصدد بناء دولتهم الناشئة، في ظل التهديدات الفرنسية المستمرة، باحتلالهم من جديد، إن واصلوا إيواء الثوار الجزائريين دون أن يغيب عن أذهاننا، وجود القوات الفرنسية في التراب التونسي في شكل قواعد عسكرية. إنه من باب العرفان بالجميل،والإقرار بأفضال أشقائنا وأخوتنا في الدم والدين من العرب والمسلمين أيام محنتنا، وسنوات كفاحنا، فالشباب العربي من جيل الخمسينات، على امتداد الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، لا يعرف العديد منهم أشياء كثيرة عن الجزائر، سوى فيلم جميلة الجزائر، وثورة المليون ونصف شهيد، و نشيد قسما بالنازلات الماحقات. إن الجزائريين ليسوا لئاما، بل كراما شهاما لا يجحدون الفضل، ولا ينكرون الجميل ويحسنون رد الفضل فضلين، والصنيع صنيعين، وهكذا هم في كل المعارك القومية، التي شهدتها الأمة العربية، في الطليعة و المقدمة من حرب جوان 1967 إلى حرب العبور في أكتوبر سنة 1973، إلى المساندة المطلقة اللامشروطة للثورة الفلسطينية.