برزت خلال أزمة التسعينات من القرن الماضي الدعوة للقطيعة مع الموروث العربي - الإسلامي بحجة أنه موروث وافد ودخيل على المجتمع الجزائري. وظهر يومها ما عرف بنهج الاستئصال في الأدبيات السياسية الجزائرية. وكان بعض ساسة الجزائر، ومنهم من يحتل اليوم مراكز سامية في الدولة، يفتخرون بوصفهم استئصاليين. جاء ذلك في وقت كان فيه مجرد الحديث عن الإسلام يعتبر شبهة، وفي وقت تم فيه تجميد قانون تعميم اللغة العربية الصادر سنة 1991 عن المجلس الشعبي الوطني، وكان ينظر لأي معارضة لذلك التوجه كجريمة لا تغتفر. في تلك المرحلة المؤلمة من تاريخ الجزائر المعاصر تم تنظيم ندوة للحوار الوطني، انتهت إلى التوصل إلى أبرز توصية في أعمالها وهي تحديد مكونات الهوية الجزائرية المتمثلة في الإسلام والعروبة والأمازيغية، نظرا لأن الأزمة التي كادت تعصف بالجزائر حينها كانت في عمقها أزمة هوية. اعتقد البعض يومها أن موضوع الهوية الوطنية قد حسم وأنه يجرم المساس بتلك المكونات و يحظر طرحها للنقاش السياسوي بوصفها ثوابت وطنية مشتركة بين عامة الجزائريين لا يجوز العبث بها وطرحها في أحاديث المقاهي والأسواق، ولا يحق لأي كان أن يجتزئ مكونا من تلك المكونات فيعلي من شأنه ويطمس المكونات الأخرى لهوى في نفسه أو لمعتقد فاسد يؤمن به. لكن نفس الأطراف التي دعت للقطيعة مع الموروث العربي - الإسلامي خلال أزمة التسعينات هي نفسها التي تقول اليوم إن مركز ثقل العروبة قد انهار وبالتالي فإن المجال أصبح مفتوحا للانعتاق من الانتماء الحضاري العربي الإسلامي، وأن التعليم باللغة العربية يعتبر استلابا هوياتيا للمجتمع الجزائري وتغريبا له عن واقعه، وأن العربية لو لم تفرض على الجزائريين بعد الاستقلال ما تعلمها أحد. وألف البعض كتبا في هذا الاتجاه منها من يصف الانتماء الحضاري العربي-الإسلامي للجزائر بالدجل الذي يجب الانتهاء منه. وهنا يجب التفريق بين الانتماء الحضاري الذي يتجاوز الطرح العرقي ويقوم على مشتركات ثقافية بين الجزائريين أساسها اللغة العربية وقيم الدين الإسلامي، وبين الإنتماء العرقي الذي يمجد العرق ويقدسه ويعلي من شأنه في مواجهة أعراق أخرى افتراضية بما يشبه الدعوة النازية التي بنيت على تمجيد العرق الجرماني الآري وتقديسه وانتهت إلى أكبر كارثة عالمية حلت بالبشرية عرفت بالحرب العالمية الثانية . وطور دعاة النزعة العرقية المطالبين بالقطيعة مع الموروث العربي الإسلامي أسلوب تعاملهم مع من يخالفونهم في الرأي. واتخذوا نفس الأسلوب الذي لجأت إليه فرنسا الاستعمارية خلال ثورة التحرير لتخويف الجزائريين من الالتحام بالثورة. فوصفت الثوار بأقبح الأوصاف وأحقرها، حيث أطلقت عليهم وصف عصابات الفلاقة، وقالت إنهم قطاع طرق وإرهابيين وخارجين عن القانون و عملاء لمصر. اليوم يكرر نفر من الجزائريين نفس الأسلوب، في حرب نفسية ماكرة، بوصف كل من يدعو للمحافظة على قيم الإسلام باعتباره دين هذا الشعب بالإسلامي، أو أنتيكريست. ووصف كل من يدافع عن العربية بوصفها حاملة لقيم الإسلام بالبعثي، أو باعثيست. ويذهب المتطرفون زيادة في الغلو إلى جمع هاتين الصفتين في كلمة مركبة لتصبح إسلامو - باعثيست أو بعبارة أدق الإسلاميون-البعثيون. وتستهدف تلك الحرب النفسية ترسيخ فكرة في أذهان أبناء هذا الشعب المحافظ على انتمائه الحضاري العربي-الإسلامي مفادها أن كل من يشتم فيه رائحة الدفاع عن قيم الإسلام وعن العربية هو عدو للجزائريين يجب تكميم فمه ومنعه من الحديث ومحاربته والتخلص منه. وصارت أوصاف مثل الإسلامي والبعثي تعتبر شتيمة في حق الجزائريين يلوكها في كل مناسبة المدافعون عن القطيعة مع الموروث العربي الإسلامي، الداعون لاستئصاله من حياة الجزائريين. أولئك هم المستلبون ثقافيا، المرتبطون بقيم فرنسا وبثقافتها ولغتها، العاملون على اجتثاث قيم الإسلام وإقصاء العربية من الوجود في بلد يعتبر فيه الإسلام دين الدولة والعربية لغتها الوطنية والرسمية منذ قرون خلت. إنه يجب التفريق تماما بين دعاة النزعة العرقية من جهة والدعوة للحفاظ على الموروث الثقافي الامازيغي بوصفه موروثا مشتركا بين كل الجزائريين من جهة أخرى. مثلما يجب التفريق تماما بين الدعوة للحفاظ على الموروث الحضاري العربي - الإسلامي و أي نزعة عرقية مصاحبة لذلك. هذا النفر من الجزائريين من المستلبين ثقافيا وفكريا لا يستطيعون الإفصاح عن حقيقة نواياهم خوفا من افتضاح أمرهم فيصنفون كل من يخالفهم في الرأي بالإسلامي والبعثي، بالرغم من أن أطروحاتهم تتعارض تماما مع موروثنا الثقافي المشترك. ذلك الموروث الذي نستمد منه المرجعية التي نحتكم إليها والأرضية التي نقف عليها اليوم دفاعا عن وجود الجزائر. فقد ارتبط كفاح الجزائريين من أجل الاستقلال بالدفاع عن الإسلام دين الشعب وعن العربية لغته. وشكل ذلك الموقف الخلفية التي استندت إليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في صياغة شعارها الخالد العربية لغتنا، الإسلام ديننا، الجزائر وطننا. وهي نفس الخلفية التي بني عليها الشعار الذي حملته الجريدة الناطقة باسم حزب الشعب قائد الحركة الاستقلالية بوصفها بأنها جريدة وطنية نصف شهرية تدافع عن حقوق الجزائر العربية. ولذلك فالدفاع عن الإسلام والعربية لم يرتبط بالمرحلة اللاحقة لاسترجاع الاستقلال بل كان في صلب نضالات الحركة الوطنية منذ ظهورها مع بدايات القرن العشرين. كما كانت حركات المقاومة الشعبية في مواجهة الإحتلال الفرنسي للجزائر خلال القرن التاسع عشر في جانب منها نضالات في سبيل الإسلام بوصفه دين الشعب والعربية باعتبارها الحاملة لقيمه. ولذلك فقيم الإسلام والعروبة عميقة في هذه البلاد عمق تاريخها. فلم تفرض بقدرة حاكم ولم تظهر فجأة بعد الاستقلال. وهي ليست بضاعة مستوردة ولا دخيلة، بل هي أصيلة في النفوس، عميقة الجذور، ممتدة في ماضي هذا الشعب، وهي لا تشكل نفيا لتاريخه العريق ولا انتقاصا من موروثه الثقافي الذي هو موروث مشترك لكل الجزائريين. يتضح ذلك جليا من البحث في موروثنا المشترك عبر قراءة تاريخنا. فالشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الوطني هو القائل شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب، وقد مات سنة 1940 أي قبل أن يولد حزب البعث سنة 1947 وفي مرحلة كانت فيها الحركات الإسلامية في المشرق ما تزال جمعيات محلية محدودة الأثر والتأثير. لقد كانت مواقف الشيخ ابن باديس مستمدة من قيم الشعب الجزائري ومن ثقافته ومعبرة عن انتمائه الحضاري ولم ينتظر حتى يولد حزب البعث فيتبنى أفكاره أو تنتشر حركة الإخوان المسلمين فيتبنى منهجها. كما تأسس حزب الشعب سنة 1937 أي قبل أن يؤسس البعث بعقد كامل وكانت حركة الإخوان المسلمين ما تزال حركة جنينية في مصر. وتقول أدبياته إن الشعارات التي كان يرفعها مناضلوه في عقد الثلاثينات تتمحور حول الدعوة لتأسيس برلمان جزائري والمطالبة بالحرية وتمليك الأرض للفلاحين وتأسيس مدارس عربية واحترام الدين الإسلامي. وكانت جريدة البرلمان الجزائري التي أسسها الحزب سنة 1939 تبرز في شعارها بأنها تدافع عن حقوق الجزائر العربية. لقد كانت مبادئ جمعية العلماء وحزب الشعب بوصفهما جناحي الحركة الوطنية معبرة عن واقع الشعب الجزائري ولم ينتظر المناضلون الأوائل تأسيس حزب البعث ليحملوا أفكاره ولا انتظروا انتشار فكر الإخوان المسلمين ليتبنوه. وقد جسد بيان الأول من نوفمبر 1954، البيان المفجر للثورة الجزائرية والذي يشكل المرجعية الأساسية للدولة الجزائرية المعاصرة، في مضمونه خلاصة فكر الحركة الوطنية بمختلف مشاربها، ونص على أن الهدف من الثورة هو الاستقلال الوطني عبر إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية، وتحقيق وحدة الشمال الإفريقي في الإطار الطبيعي العربي - الإسلامي. ولا نعتقد أن من صاغوا بيان الأول من نوفمبر كانوا أنتكريست أو باعثيست. بل كانوا يجسدون ضمير الشعب الجزائري وخلاصة تطلعاته وآماله. ومن ثم فإن قادة الجزائر بعد استرجاع السيادة الوطنية ظلوا أوفياء للمبادئ التي ناضلت من أجلها الحركة الوطنية وساروا على نفس النهج والتزموا بتطبيق المبادئ التي استشهدت من أجلها أجيال متلاحقة من الجزائريين لافتكاك حرية وطنهم.