الشارع حيِّزٌ عموميٌّ لا احتكار فيه لشخص أو مجموعة، وهو فضاء للتنفّس قد يحوِّله البعض إلى مساحة ضيِّقة خانقة، فمتى يكون التظاهر فيه حالة صحِّية لا بد منها، ومتى تُصبِح الاحتجاجات فيه فخاخا يجب تفكيكها ؟ التظاهر حالة صحية تدل على حيوية المجتمع، والاحتجاج السلمي هو السلوك الذي يميِّز المجتمع المتحرٍّك، عن غيره من المجتمعات الراكدة، ضمن الأطر القانونية التي تكون الدولة قد وضعتها- بمشاركة القوى السياسية الشريكة- كصمام أمان، لمواجهة أيِّ انحراف تنتهجه هذه الجمعية أو تلك، لتحقيق مآرب شخصية أو فئوية خارج مصالح المجموعة الوطنية، والجزائري يعرف هذه الظاهرة جيِّدا، ولكن كموجة غضب يحجب أثناءها عقله، ويحوِّلها في كثير من الأحيان إلى جنون لا يخرج منه إلا وقد ألحق بنفسه وبممتلكاته الأذى الكبير إثر هدوء العاصفة، ولترشيد هذه الحالة كان على كافة الأحزاب-سواء تلك التي تتّخذ لها مقاعد في السلطة أو تنتظر في المعارضة- واجب تأطير الموج البشري الذي يُحدِثه تدفّق الناس في الشارع، حتى لا يغرق الحرث والزرع، فإلى أي مدى استطاعت هذه الهيئات الحزبية، أن ُتعقِّل مؤسسة التظاهر ؟ قبل أكثر من عشرين عاما، دخل الجزائريون في حركة انفتاح سياسي حُسِدوا عليها، وأخافوا بها المستبدين المستكبِرة قلوبهم ، واستمتعوا بها إلى حين، استمعوا أثناءها إلى أكثر من وجهة نظر، في بناء جزائر قوية، غير أن ذلك الانفتاح سرعان ما حوّله الذين ضاقوا بالفكر الآخر، إلى انحلال كادت أن تتحلّل معه الدولة، وهي أداة الشعب في البقاء ووسيلته في التطوّر، وراح هذا البعض- الذي وُلِد وعاش وتربَّى على »مبادئ« الرؤية الواحدة، التي تُلغي ما عداها من الرؤى برغم ما يحمله من شعارات ديمقراطية، أكدت الأيام أنها لم تكن إلا سلَّما للسلطة- راح يدعو إلى استئصال الآخر، من خلال الدعوة الصريحة، إلى تضييق مساحة التعبير حتى لا تستوعب غيره، وفرح حينما استجاب له مَن يتحمّلون مسئولية تأمين الجمهورية، وفُرِضت حالة الطوارئ التي انتظر أن يقطف بها الثّمر وحده، في ظل وضع كان داميا على أغلبية الجزائريين، أفرز لاحقا كل الأمراض التي نعيشها اليوم، ويدّعي أن ثورته الديمقراطية هي من أجل محاربتها، من رشوة وفساد ونهب للملك العام وبيروقراطية معطِّلة، وعادت الساحة- بعد عشرية التدمير والانتحار الدموي- إلى الانفتاح المحتشَم، على حراك سياسي متأني، يهدف إلى إخراج الشعب من الوضعية الشاذة التي أدخله فيها شذوذ سياسييه، واستعادة الدولة لدورها المغتصَب من طرف جيل المراهقة السياسية، ودخل ذلك البعض وهو يمنِّي النفس بقيادة هذا الشعب المغبون بكثير من المندسِّين عليه في سياسة حكمه، ولأن فراسة الشعب لا ُتخطِئ، فقد وضعه في مكانه الطبيعي، وكافأه- في الانتخاب- بإقصاء مخزٍ لم يجد معه إلا الإقرار بأنه أخطأ في الشعب، وكان الملاحظون يعتقدون أن الدكتور سعيد سادي يكون استفاد من الدرس الشعبي، فيترك »جمعيته السياسية« إلى من يستطيع إخراجها من الطريق المسدود، الذي وضعها فيه مختص لا يُحسِن التشخيص، بل وأساء بوصفته الضارة، إلا أن ذلك الطبيب أصر على السير في نفس النفق، مغتنما كل توتر اجتماعي، لإحداث »خراب« يصيب المجتمع، ويُبطِل مفعول الأدوات الديمقراطية، ويقطع ما بقي من ثقة بين المواطن وبين كل من يريد أو يدَّعي الحديث باسمه . يعتقد جزء كبير من المجتمع العربي، أن الأحزاب »الوطنية« تحولت- في غالبيتها- إلى طابور خامس للاستدمار من خلال الترويج لقيّمه، بعدما ثبت أن نظام الحكم العربي، لم يستطع منذ افتكاك الاستقلال تخليص الشعوب من الصورة التي أرادها لها الراحل أو المُرحَّل، صورة ترى فيها تلك الشعوب وهي لا تأكل إلا ما يعطيه لها الغرب، ولا تلبس إلا ما يزيد عن حاجته، تتقاذفها الأزمات، وتلاحقها التّهم الجاهزة بالتخلّف والهمجية والتّطرّف، ويضعها في منطقةٍ وسْطى، لا هي حيّة فيها ولا هي ميِّتة، ولتغيير هذه الصورة لا بد للحياة السياسية أن تتحرَّك بما تشتهيه رياح الشعوب، ضمن النسق القانوني القائم حتى الآن، وإلا لا معنى لأحزاب ٍسياسية ما زالت تتكاثر، ولا فرق بينها وبين شارع منفلت خارج عن سيطرة منظِّميه، كما حدث مؤخرا مع حزب التجمّع »للثقافة والديمقراطية« الذي حطّمه رئيسه، وهجّر منه مناضليه في أكثر من منعرج سياسي، وظل متمسِّكا برئاسة مجرّدِ دكانٍ حزبيٍّ صغير، يقتات – نفاقا- ببعض الشعارات التي فقدت بريقها ومفعولها، يضحك بها على بعض السّذج من أصحاب النوايا الطيِّبة، حتى ولو تعرّض ذلك الدكان، إلى أكثر من تصدّع، تسربت معه مجموعات من مناضليه خارج الحزب، ناقمة على رئيسٍ خالد في منصب الرئاسة، ويُنكِر على غيره ذلك، أو عند خروجه عن كل القوانين والأعراف والتقاليد الديمقراطية، كما فعل يوم اعتصامه بمقر حزبه حينما قذف- بكل ما وجده في متناوله- رجال الأمن ومعهم رجال الصحافة، الذين عجّل ببعضهم إلى المستشفى، فعجّلوا برفعهم قضايا ضده كشخص وحزب. أثبتت الاحتجاجات الأخيرة- التي اتخذت من رفع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية عنوانا لها- غيابا كاملا للأحزاب، ورغم أن الجهاز التنفيذي تكفّل بالمشكل، الذي يُخشىَ أن يُصبِح معه قانون المالية التكميلي كقميص عمر، إذا غطَّى الجزَء الأعلى من الجسم انكشف الجزء الأسفل منه، إلا أن هناك دعاة »للخراب« ممن يؤمنون بقولهم عليّ وعلى أعدائي، يحاولون في الوقت المستقطع من انسدادهم، أن يجعلوا الشارع أداة انتحار مجنونة، تضرب كل الجزائريين في أنفسهم وممتلكاتهم وأخلاقهم، وتؤكد ما سوّقه عنهم مَن لا يُحبُّهم، من أنهم عنيفون بلا سبب، مع أن العنف إنما هو رد فعل طبيعي على أيِّ انحباس سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، كان على المؤسسة الحزبية، سواء كانت في »الموالاة« أو في المعارضة، أن تُجفِّف منابعه لا أن تغذِّيه، وأن تستلّه من نفسية الجزائريين بإزالة أسبابه، غير أن ذلك لن يتم إلا باستعادة الثقة في الجماهير، من خلال ترميم أحزابها أو إعادة بنائها، باستبدال الوجوه »المحروڤة« التي تتصدّر دائما واجهة تلك الأحزاب، وتطهير »مآويها« النضالية من الموظّفين، الذين لا يظهرون إلا كالخفافيش في المناسبات الأليمة أو المواعيد الانتخابية، مع الاعتماد على أهل الكفاءة أولا وعلى أهل الثقة بعد ذلك، لأنه ُيفتَرَض أن تكون السياسة في منهجية الأحزاب هي الاستجابة العملية للمطالب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية التي يتطلّبها تطوّر المجتمع، وتستلزمها ضرورات استمرار الدولة . أكدت احتجاجات بداية الشهر- التي ترسَّب فيها الاجتماعي بالسياسي بالتآمري، واعتصام الذي أراد الظهور الإعلامي لصاحب »حزب« تآكل- أن المجتمع يكاد يتمظهر في أشكال ثلاثة: أحزاب ائتلاف رئاسي، تقول إن برامجها تقاطعت مع برنامج رئيس الجمهورية، فأعطته الأولوية، وراحت تدعمه بكل إمكانياتها الحزبية، ومعارضة لم تجد لها مكانا في التحالف، تعلن رفضها للواقع جملة وتفصيلا، ولكنها تغترف من مالٍ تعيب على غيرها الاستفادة منه، ومجموع المواطنين الذين أصيبوا بمرض فقدان الثقة، في كل ما يفعله هؤلاء أو يقول به أولئك، مما يجعل الشارع مرشّحا لاحتجاجات يفخِّخها البعض لإثبات وجوده، وفي غياب المشاركة الفعّالة والإيجابية للمعارضة، سيظل الحكم متفرِّدا بالسلطة، التي قد تضيق زوايا رؤية المجتمع لديه، مما يقلِّص من مساحة الممارسة السياسية، ويحدّ من حريّة التعبير، ويقلِّل من استكمال استقلالية القضاء، ذلك أن الانفتاح المنشود لا تعطيه السلطة القائمة، بقدر ما تفرضه المعارضة الإيجابية، التي تستطيع تجنيد المواطن في كل وقت، وما لم يعد المواطنون الهمَّ المشترك لأحزاب »الموالاة« والمعارضة، وما لم يحس هؤلاء المواطنون بذلك ويلمسوه، فإن الشارع يظل متمرِّدا على الجميع، ومرشَّحا- في كل حين- لاحتجاجات يفخِّخها البعض لإثبات الوجود، غير أن خسارتها ستطال الجميع، وتهز المجتمع، وتزعزِع الدولة ...