قوّضت حالة الطوارئ المعلنة في الجزائر منذ 1992 كل مظاهر حرية التظاهر والتجمع التي خولها الدستور لمختلف فعاليات ومكونات المجتمع في بلادنا. وعلى الرغم من أن دستور فيفري 1989 أقر حق التظاهر صراحة في المادة 41 التي تنصّ على أن ''حريات التعبير وإنشاء الجمعيات والاجتماع مضمونة للمواطن''، إلا أن العامل الأمني الذي تختفي وراءه الدوافع السياسية مازال يحد من حق ''المواطن'' كما جاء في الدستور من حق التظاهر. وباستثناء المسيرات ''العفوية'' التي تبرز في مناسبات بين الحين والآخر، فإن كل من خرج عن عباءة السلطة فهو حرام، وهي الفتوى التي توارثها وزراء الداخلية المتعاقبون على الكرسي الأكثر أهمية وحساسية وخطورة في مقاعد الحكومة. وتظهر النصوص الصادرة ضمن قانون حالة الطوارئ كيف تم منح وزير الداخلية والجماعات المحلية والولاة ضمن اختصاص أقاليمهم الصلاحيات الواسعة من أجل مراقبة هذا المظهر السياسي الهام في بلادنا، حيث إن المادة 7 من المرسوم الرئاسي رقم 9244 في 9 فيفري 1992 أغلقت المجال أمام كافة محاولات الاجتهاد السياسي التي يهدف إلى إحداث ثغرة قانونية في المنع المقنن لحق التظاهر، إذ إن هذا المرسوم الذي يعتبر تنفيذا لمواد قانون الطوارئ ، يؤهل وزير الداخلية والجماعات المحلية، والوالي المختص إقليميا، للأمر عن طريق قرار، بالإغلاق المؤقت لقاعات العروض الترفيهية، وأماكن الاجتماعات مهما كانت طبيعتها، وبمنع كل مظاهرة يحتمل فيها الإخلال بالنظام والطمأنينة العمومية، ولأن الصياغة في مجملها فضفاضة فإن مجال التظاهر والتجمعات خضع منذ 18 سنة إلى الحلقة الضيقة نفسها التي أحكمت قبضتها على كل حركة سياسية مثلما يجمع على ذلك كل المتابعين للشأن السياسي. وشكلت أحداث ربيع 2001 ومسيرة العاصمة، التي نظمتها حركة العروش وانتهت بحريق ''روما''، مرجعية ''تخوفات'' أمنية وسياسية جديدة، أدت إلى المزيد من المنع، حيث أصدرت الحكومة بعد ذلك قرارها الشهير القاضي بمنع التظاهر في العاصمة، دون تحديد تاريخ لوقف المنع أو التراجع عنه. ونتيجة هذه الترسانة القوية من قوانين الاعتراض والمنع، وعوضا أن يتحدد دور الإدارة في مرافقة تفاعلات المجتمع سياسيا واجتماعيا، فإنه تحول إلى حارس على الخطوط الحمراء لقوانين المنع التي جاءت بها حالة الطوارئ. هذا الدور الجديد دفع بالتشكيلات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والتنظيمات النقابية والمهنية إلى التراجع شيئا فشيئا عن استخدام ''الشارع'' كقوة سياسية أو وسيلة. وبدا واضحا أنه من المستحيل إشراك المواطن في عملية التفاعل السياسي باستثناء أيام الانتخابات وفي بعض المناسبات ''العفوية'' التي لا تخضع لتلك الترسانة القانونية. وكنتيجة منطقية لهذا الأسلوب فإن العديد من التشكيلات السياسية لجأت بشكل واضح إلى ولوج عالم الاحتجاجات الاجتماعية والنقابية، حيث تمكنت من الفوز بالعديد من الضربات القاضية على الحكومة في مناسبات عدة. وواضح أن قرابة عقدين من المنع والاعتراض على كل ما يمكنه أن ينمي ثقافة الاحتجاج السلمي والتظاهر الحضاري بلور أسلوبا جديدا لدى المواطن الجزائري تجسد في مظاهر الاحتجاج العنيف والحرق والتدمير وهو ما تابعناه في العديد من ولايات الوطن.. وهران، الشلف مغنية، بوكانون في الحدود مع المغرب، صيف 2009 بالغزوات، انتفاضة سكان ديار الشمس.. والعديد من ولايات الوطن. ويجزم العديد من المتتبعين بأن الجزائر لو كانت تعيش وضعا طبيعيا فيما تعلق بحرية التظاهر والتجمع ما عرفت تلك الاحتجاجات تكسير زجاج نافذة واحدة. لذلك يمكن لنا وصف حالة العنف التي تبرز بها الحركات الاحتجاجية الاجتماعية بعدما اختفت الحركات الاحتجاجية السياسية برد الفعل الإستباقي، أي أن المواطن أصبح اليوم يفرض طريقته في التعبير والرد على ما يمكن أن يكون رفضا لمطالبه من قبل القائمين على حل مشاكله والاستماع إلى انشغالاته، وحتى الحكومة يبدو أنها انساقت وراء منطق الاحتجاج العنيف حيث، غالبا ما تقابله بالاستجابة السريعة لمطالبه وكأننا نؤسس اليوم لشرعية المطلب القائم على العنف على حساب المطلبية السلمية والملتزمة بالقانون. وهكذا تحول الحق في المسيرات الاحتجاجية السلمية إلى أمر واقع اسمه الاحتجاجات العنيفة التي تنتهي بالتكسير والتخريب ثم الاعتقال. اليوم، وبعد نحو 18 سنة من المنع المقنن للتظاهر، يتجه المجتمع نحو المزيد من السلبية في التعاطي مع الطرق القانونية للتعبير عن المشاكل والانشغالات، بعدما أدت حالة المنع المستديم للتظاهر والتجمع إلى المزيد من العنف والاحتجاج الدموي للتعبير عن أبسط المطالب الاجتماعية، في الوقت الذي يعبر الاحتجاج السياسي بأشكال أخرى أكثر دراماتيكية عن مطالب أصحابه، غالبا ما نقرأها في عناوين الأخبار التي تشكل صدمة للمجتمع.