إن استقالة برليسكوني في إيطاليا، وقبله باباندريو في اليونان .. رسالة واضحة للحكام العرب ، تقول لهم بالحرف »ما هكذا تورد النوق وتساس الشعوب«. من الطبيعي أن تمر الدول والأمم عبر مراحل تاريخها وتطورها بحالة من التوتر واللااستقرار أو ببعض النكبات والأزمات، ولم يذكر التاريخ القديم ولا الحديث أي دولة لم تتعرض لهزة سياسية أو اقتصادية وطبيعية، لكن عبقرية الشعوب والدول جعلت تلك الأمم تجتاز محنها ولو ببعض التكاليف المادية والبشرية وحتى السياسية، لكن في نهاية المطاف كل ثمن يهون من أجل بقاء الدولة ومن أجل مصلحة الشعوب والأوطان. لقد شهد العالم أزمة عالمية اقتصادية كبرى عام 1929 هزت أركان النظام الرأسمالي اندلعت في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم امتدت إلى باقي البلدان الرأسمالية منها ألمانيا، وقد حاول روزفولت حلها منذ عام 1933 بخطة جديدة حققت بعض الإيجابيات، لكنها لم تكن كافية فتسببت في نشوب حرب عالمية ثانية. اليوم يعيش العالم الرأسمالي أزمة اقتصادية جديدة لا تقل تهديدا للأمن العالمي عن نظيرتها لعام 1929 ، فالأزمة الحالية التي نشبت عام 2007 أصبحت تهدد حياة دول بكاملها، منها اليونان التي تقع على حافة الإفلاس، وإيطاليا، والبرتغال وإسبانيا وإيرلاندا وحتى دول كبرى مثل فرنسا بسبب ارتباطها ماليا واقتصاديا بهذه الدول. وبسبب تداعيات الأزمة، قامت الحكومات بعدة خطط للإصلاح الاقتصادي والمالي ، لكنها ليس كافية ولم تحل الأزمة لحد الآن، لذلك قامت الشعوب الأوروبية بعدة حركات احتجاجية ومظاهرات وتجمهرات، لكن حكوماتها لم تواجهها بالقتل والاعتقالات. بل إن باباندريو في اليونان قدم استقالته وترك الشعب اليوناني يختار مسؤولا جديدا بروح جديدة ودم جديد وطاقم جديد وسياسة جديدة لحل الأزمة. لم يتمسك بمنصبه ولم يقتل شعبه من أجل البقاء فيه، ولم يتحامل على شعبه ولم ينعتهم بنعوت مهينة مشينة قبيحة مختلفة، وكذلك فعل رئيس الوزراء الإيطالي برليسكوني. رغم أن جورج باباندريو لم يحكم اليونان لنفس المدة التي حكم بها الحكام العرب دولهم وشعوبهم، ورغم أن برليسكوني لم يحكم إيطاليا مدة تعادل ربع المدة التي حكم بها القذافي شعبه، ولم يحكم ربع المدة التي حكم بها صالح اليمن، ولا المدة التي حكم بها بشار الأسد سوريا. باباندريو ألقى كلمة وداع للشعب اليوناني عبر التلفزة اليونانية تمنى فيها النجاح لخليفته على رأس الوزراء لأن اليونان هي فعلا أولا وقبل كل شيء، برليسكوني غادر الحكومة متمنيا التوفيق لخليفته لأن مصلحة إيطاليا أولى وأعلى من مصلحته الشخصية أو الحزبية. الدول العربية بدورها تشهدجملة من الأزمات، تجلت وتجسدت فيما يعرف باسم »الربيع العربي« أو »الثورات العربية«، معظمها تطالب بتغير الأنظمة أو على الأقل القيام بإصلاح سياسي يتجسد برحيل المسؤولين الحاليين. لكن الحكام العرب لم يفعلوا كما فعل برليسكوني ولا باباندريو. لأن في أوروبا والدول الديمقراطية المختلفة، التي يصل فيها الحكام إلى السلطة عن طريق الإنتخابات النظيفة، عندما يقول لهم »الشعب بشكل مباشر أو عبر ممثليه في البرلمان: أرحلوا .. يرحلون«، لأن الشعب هو مصدر السلطة الفعلي والحقيقي، يمنحها لمن يشاء وينزعها ممن يشاء. نحن في الوطن العربي، يحدث العكس، الحاكم العربي يصل بطرق مشبوهة إلى السلطة، يحكم شعبه بقوة الحديد والنار، وتعد المؤسسة الأمنية أهم مؤسسة في البلاد..لا الجامعة ولا المجتمع المدني ولا الانتخابات.. فالشعب عمليا ليس هو مصدر السلطة الحقيقي ، بل إن المصادر الحقيقية للسلطة هي مصادر أخرى غير الشعب، لذلك لا توجد ثقافة الاستقالة عند الحكام العرب، وأخطر ما في الأمر أنه عندما يقول لهم الشعب ارحلوا لا يرحلون مثلما فعل برليسكوني وباباندريو، بل يتمسكون بالحكم ويلجؤون لتوظيف العنف والقتل والاعتقال، أي توظيف المؤسسة الأمنية من أجل بقائهم في الحكم.. فعلها حسني مبارك في مصر، وفعلها بن علي في تونس، وفعلها القذافي في ليبيا، ويفعلها حاليا بشار الأسد في سوريا وعلي عبد الله صالح في اليمن. أما البلدان العربية التي لم تمتد إليها يد الثورات فقد بادرت بإصلاحات سياسية من أجل بقاء الحاكم..إصلاحات بنفس العقلية والرجال، ومن المتوقع أن تؤدي إلى نفس النتائج. حكام عرب..لا يخاطبون شعوبهم ولو عبر التلفزيون..حتى في مناسبات دينية مقدسة أو وطنية جليلة، لا يقولون لهم »عيدا سعيدا«.. لا يخاطبونهم لأنهم ليسوا مصدرا فعليا لحكمهم وسلطتهم. لا يرحلون..حتى لو قيل لهم ارحلوا..وحتى لو بقي القذافي وصالح ومبارك وبن علي والأسد وغيرهم في الحكم مدة نصف قرن..وعندما تظهر المعارضة في بلدان أوروبية عديدة، مثلما حدث مع المجلس الانتقالي السوري الذي يقوده أستاذ جامعي في العلاقات الدولية برهان غليون، يقوم الحاكم العربي وأبواقه باتهامها بالمولاة للغرب والعمالة له .. لكن المعارضة لم تولد في الخارج إلاّ لأن حق الكلمة وحق النشاط السياسي صادره الحاكم العربي من الشعوب العربية، لقد منعها حتى من الكلام في وطنها الأم، بل في سوريا تمت محاكمة حتى المواطنون المدونون على شبكة الأنترنيت فكيف لا تولد المعارضة في باريس أو لندن أو واشنطن أو حتى في اسطنبول؟ إن الغرب الذي ننبهر يوميا بمنجزاته الحضارية المادية، وبآلياته الديمقراطية في ممارسة الحكم، وبحجم الرفاه المادي والمعنوي الذي تعيشه شعوبه، أصبح ملهما للشعوب العربية وغير العربية أيضا. فلماذا لا يكون حكامه ملهمون لحكامنا؟ لماذا لا يرحلون كما يرحل الحكام في الغرب؟ إن ما قام به جورج باباندريو في اليونان، ومن بعهده برليسكوني في إيطاليا، وقبلهما كثير وكثير..هي رسالة تقول بوضوح: »ما هكذا تورد النوق..يا حكام العرب«، رغم أن الحكام العرب أكثر دراية بالنوق والإبل من حكّام أوروبا.