بعد حوالي تسع سنوات من الاحتلال، تغادر القوات العسكرية الأمريكية العراق. الكثير من الملاحظين لم يكونوا يتصورون أن يتم الانسحاب فعلا لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تحتل العراق لتنسحب منه بل ذهبت إليه لتقيم وتبقى فيه. مهما كان سبب الانسحاب، الذي يبدو إنه متعلق أساسا بالتحضير لحرب ضد إيران، فإنه من المفيد، خاصة للمطالبين بالتدخل العسكري الأجنبي في العالم العربي اليوم، أن ننظر إلى الحالة العراقية وكيف أصبح هذا البلد بعد تسع سنوات من الاحتلال. قبل حربي الخليج الأولى والثانية كان العراق يعتبر من الدول العربية الرائدة، وكانت دراسات عديدة رشحته منذ بداية الثمانينيات، إلى جانب الجزائر، للخروج من دائرة الدول المتخلفة واللحاق بالدول المتقدمة؛ ورغم الحرب المدمرة التي خاضها ضد إيران وحرب الخليج الأولى إلا أن الدولة العراقية بقيت واقفة وموجودة ومهابة داخليا وخارجيا. الذين عرفوا العراق قبل الاحتلال الأمريكي يؤكدون بأن البلد كان يأكل مما يزرع ويلبس مما ينسج وآمن من الخوف ولا يعرف الجوع ولا الأمية وكان يعرف نهضة علمية وعمرانية جد واعدة. عراق ذلك الزمن كان موحدا وكان العراقي يسافر ويقيم في أية منطقة من وطنه دون خشية أو خوف. باستثناء النظام السياسي، حيث كان الحكم فردانيا وحزب البعث أحادي لا يقبل معارضة أو رأيا آخرا، فإن العراق، على خلاف دول الجوار، كان يتوفر على كل عناصر الحداثة والعصرنة؛ ومع ذلك كانت حجة أمريكا، في حربها عليه واحتلالها له، هو الإطاحة بالديكتاتورية لإحلال الديمقراطية وتجفيف منابع الإرهاب وحرمانه من أسلحة الدمار الشامل. كانت الحرب فظيعة، استعملت فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية كل أسلحة الدمار، بما فيها المحرمة دوليا، والتي لم تقتل الإنسان وتدمر المباني والمنشآت فقط بل لوثت أيضا البيئة وجعلت عشرات الآلاف من الأطفال العراقيين يولدون مشوهين )في مستشفى الفلوجة وحده بلغت نسبة الأطفال المولودين بتشوهات 140 حالة لكل ألف طفل(. على مدار التسع سنوات من الزمن الأمريكي بالعراق، أصبحت الحياة، كما قال أحد العراقيين، هي الاستثناء أما الموت فهو الخبز اليومي للمواطنين، فقد تحولت الدولة الآمنة والمستقرة إلى مستنقع لكل الأخطار الناتجة عن أعمال عسكرية شارك فيها مليون ونصف مليون عسكري أمريكي، حسب ما جاء في كلمة للرئيس أوباما خلال الأسبوع الماضي. في دراسة نشرت منذ ثلاث سنوات عن مركز استطلاعات الرأي »أوبينيون ريسيرتش بيزنس« بلندن، جاء فيها إن عدد العراقيين الذين قتلوا في أعمال العنف في العراق أي الذين تسبب الاحتلال في قتلهم، في الفترة ما بين مارس 2003 وأوت 2007 بلغ أكثر من مليون فرد وهو ما يعادل قتيل لكل خمس عائلات عراقية وحوالي ثلاثة بالمائة من مجموع سكان العراق. في دراسة أخرى أعدها باحثون برئاسة )ليس روبرتس( من جامعة )جون هوبكينز( ونشرتها مجلة »لانسيت« الطبية البريطانية في أكتوبر 2004، نقرأ أن حوالي مئة ألف وفاة سجلت في العراق بين مارس-آذار 2003 وسبتمبر 2004 نتيجة العنف والأزمات القلبية والمشاكل الصحية، وهو ما يعني أن مخاطر الوفيات تضاعفت بعد الاحتلال بنسبة 250 بالمائة على ما كانت عليه قبل الغزو الأمريكي. نفس المجلة ذكرت بأن العراق كان، قبل 1990، من أفضل دول المنطقة في مجال الرعاية الصحية. إضافة إلى مئات الآلاف من القتلى، فإن عدد الجرحى قد تجاوز، حسب وزارة حقوق الإنسان العراقية، مئات الآلاف. الوضع الأمني الناشئ عن الاحتلال أدى، من جهة أخرى، إلى نزوح أكثر من مليون ونصف المليون عراقي إلى خارج الحدود ومثلهم داخل العراق. وكأن كل ذلك لم يكف لتدمير إرادة المقاومة لدى الإنسان العراقي فسلطت عليه أمريكا كل أنواع التعذيب في السجون تحت إشراف ضباطها وجنودها من الجنسين. التعذيب في العراق، كان من القضايا التي ثارت حولها العديد من النقاشات في وسائل الإعلام الدولية خاصة بعد نشر صور سجن أبو غريب المهينة للذات الإنسانية. إنها إذن جريمة ضد الإنسان العراقي بكل المقاييس، لكن مع ذلك قد تهون كل التضحيات من أجل الوطن لولا الوضع الذي ترك عليه العراق بعد الانسحاب، فقد فتتت أمريكا وحدة هذا البلد وجعلته طوائفا ومللا متناحرة ومتقاتلة. بالإضافة للميليشيات والمجموعات المسلحة التي تأخذ أشكالا وأنماطا مختلفة بعضها يتبع لأطراف أجنبية، فالعراق لم يعد دولة واحدة بل ثلاث دويلات والصراع يدور بينها على مناطق النفوذ وكيفية تقسيم البترول وإلى أي إقليم ستتبع حقول النفط والغاز. أمريكا تركت وراءها، في العراق، مشروعا لثلاث دويلات ستظهر إلى الوجود قريبا وستتقاتل لسنوات طويلة في ما بينها إلا إذا تمكنت المقاومة الوطنية الشريفة من إحباط مؤامرات أمريكا وعملائها في المنطقة وأعادت اللحمة الوطنية في إطار دولة العراق الواحدة. أخيرا، عراق اليوم هو صورة كاملة عن نوع الديمقراطية التي تبشر بها الولاياتالمتحدةالأمريكية في المنطقة العربية، مع التذكير أن النظام السياسي العربي هو الذي سهل المهمة للولايات المتحدة في العراق واليوم في دول عربية أخرى.