نعلم جيدا بأنّ أمريكا لم تحتل العراق بهدف تحويله إلى واحة للحرية والديمقراطية في الصحراء العربية القاحلة، لأن آخر شيء يمكن أن تُفكِّر فيه أمريكا هو مصحلة الشعب العراقي، ولم تحتلَّه للإطاحة بنظام صدام حسين لأنها كانت قادرة على فعل ذلك من دون أن تحرك جنديا أو دبابة، ولم تحتله لأنه يمتلك سلاح الدمار الشامل كما زعمت، لأنها لو تأكدت فعلا من خلال جولات للتفتيش بأن العراق يملك مثل هذا السلاح لما غزته وهزَّت عش الدبور بأيديها، بل إنها لم تغزُ العراق إلا بعد أن تأكدت بأن العراق لا يملك من الإمكانيات العسكرية والبشرية ما يشكل خطرا على جنودها.. نعلم جيدا بأن أمريكا احتلت العراق لأهداف غير تلك المعلن عنها والتي تصبُّ قطعا في مصلحتها، كما نعلم جيدا بأنها ارتكبت من الجرائم ما لا يمكن لعقلٍ أن يتصوَّره، ويكفي فقط أنها حوّلت بلاد الرافدين الشامخ بعد سبع سنوات من الاحتلال إلى مسلخ بشري مفتوح على الطبيعة، وإلى قبور تبتلع دون أن تشبع وإلى مفرخ للإرهاب وبؤرة للطائفية التي فتَّتت المجتمع العراقي وضربت وحدته ومازالت تهدد بنسف مساحته الترابية وتقسيمها إلى كنتونات على أسس مذهبية وعرقية لخلق دويلات سُميت مسبقا وهي كردستان وشيعستان وسنَّسْتَان. لا يجب أن تكون منجِّما أو عالما نابغا حتى تدرك بأن الاحتلال ارتكب جرائم حرب في العراق، وبأنّ الأرقام المعلنة عن الضحايا والخسائر غير صحيحة، وبأن التعتيم والتستُّر والتكتم غطى ولازال على كل الخسائر المادية والبشرية وعلى كل الإنتهاكات التي مسَّت المواطن العراقي المغلوب على أمره، لكن أن تعرض أمامك الفظائع التي ارتكبها الاحتلال وزبانيته بالأرقام والأدلة والصور والشواهد الموثقة من طرف الجناة أنفسهم فذاك أمر آخر يعزّز المسلمات والحقائق المعروفة مسبقا بالأدلة والبراهين، ويبيّن بأن أمريكا ارتكبت عن سابق إصرار وترصّد جرائم لو ارتكبتها دولة أخرى لكان مصيرها أسودا بكل تأكيد، لكن أمريكا فوق القانون والشرعية.. إن الوثائق الأمريكية السرية التي نشرها موقع «ويكيليكس» كشفت الستار عن تفاصيل تحدثت عن مأساة عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الذين سقطوا بنيران القوات الأمريكية، كما تحدثت عن نساء وشيوخ وأطفال أعدموا على نقاط التفتيش العسكرية، وتم قصفهم وهم في منازلهم ومدارسهم وساحات لعبهم بالمقنبلات الأمريكية.. الوثائق أماطت اللثام عما كان يعانيه السجناء في الزنزانات والدهاليز على يد القوات العراقية بتستُّر من الاحتلال، حيث كانوا يعذبون ويغتصبون ويقتلون، كما بينت بأن عدد ضحايا الحرب هو أضعاف مضاعفة عن العدد المعلن، ويكفي دليلا أنه في شهر واحد وهو شهر ديسمبر 2006، قُتل خمسة آلاف و 138 عراقي، أربعة آلاف منهم مدنيون، كما أن نسبة القتلى في العراق هو أربعة أضعاف ما سجَّلته الحرب في أفغانستان.. الوثائق السرية الأمريكية ورَّطت القوات العراقية وحتى القيادات العراقية في ارتكاب تجاوزات امتدت إلى التعذيب والاعتقالات والقتل، كما أكدت المعلومات المعروفة مسبقا بخصوص الجرائم التي ارتكبتها شركة بلاك ووتر الأمنية الأمريكية الخاصة.. مع بداية كشف المستور وإماطة اللثام عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الاحتلال وعملاؤه في العراق، بدأت الأصوات تطالب بالتحقيق بغرض القصاص من الجناة. ومع إدراكنا بأن هذه الدعوات ستذهب مع الريح، فإننا بدورنا نتساءل أين هو «أوكامبو» الذي شهد ما اعتبرها جرائم ارتكبها نظام الخرطوم في دارفور، وأصدر أمرًا بالقبض على الرئيس السوداني، ليشاهد موقع«ويكيليكس» ويتمعّن في الوثائق السرية البالغ عددها 400 ألف، والتي تُدين الاحتلال الأمريكي بارتكاب جرائم حرب ليصدر أمرا بإلقاء القبض على المسؤول عن هذه الحرب وهذا الإحتلال..