مرت، مع بداية هذا الأسبوع، خمسة أشهر كاملة على الانتخابات التشريعية في العراق ولم تتمكن الطبقة السياسية العراقية بعد من تشكيل حكومة. الكل يتذكر كيف قدم الأمر، خلال الحملة الانتخابية، حيث كان الخطاب السائد وقتها، في العراق وفي أمريكا، يلح على أن الانتخابات التشريعية ستخرج العراق من أزمته؛ وكان مما قيل وقتها أن الصندوق الانتخابي سيأتي بالأمن والسلام للعراق. عشية الانتخابات التشريعية كنت شاركت في إحدى الحصص الإذاعية التي خصصت للحدث العراقي وأذكر أني قلت وقتها أن هذه الانتخابات لن تحقق أي شيء لبلاد الرافدين، وبررت موقفي على أساس أن لا شيء ينتظر من الاحتلال وأن كل الانتخابات التي تجري تحت إشراف إدارة أي احتلال، مهما كان، لا تخدم أبدا أهل البلد. ومرت أشهر خمسة، وأمر تشكيل حكومة عراقية يراوح مكانه؛ وعجز الجميع عن إيجاد مخرج للأزمة السياسية التي يبدو أنها ليست مرشحة للحل، كما ازدادت الوضعية الأمنية سوءا وأصبح واضحا أن أطرافا عدة لا تريد للعراق أن يهنا أو يستقر. مشكلة العراق، تكمن اليوم في مسألتين رئيسيتين هما: الطائفية والاحتلال. الطائفية المقيتة، تنخر جسم العراق وتشل وحدته وتهدد كيانه، وقد سعت سلطات الاحتلال، منذ دخولها بغداد، إلى تشجيع الطوائف على حساب الدولة الوطنية، وفصلت كل القوانين، بما فيها الدستور، على أساس طائفي. هذا المسعى هو نفسه الذي عمدت إليه فرنسا في لبنان حيث تركت وراءها دستورا يكرس الطائفية، وهو نفس الدستور الذي كان من آثاره دخول لبنان في حرب أهلية دامت أكثر من عقد ونصف العقد. يبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية استفادت جيدا من النموذج الفرنسي في لبنان فعمدت إلى تطبيقه في العراق. أهل العراق، الذين حرمتهم السلطة الوطنية لعقود من الزمن من التعبير الحر عن آرائهم وممارسة طقوسهم بكل حرية، رؤوا في النموذج الذي اقترحته الإدارة الأمريكية فسحة واسعة، لم يكونوا يحلمون بها تحت حكم صدام حسين، ليعبروا عن أرائهم وانتماءاتهم بكل حرية وليمارسوا طقوسهم الدينية دون التعرض للضغط أو القمع. غير أن الفسحة سرعان ما تحولت إلى مصيدة وقع فيها كل الشعب العراقي الذي اكتشف فجأة مدى الحقد والكراهية ورفض الآخر وكل أشكال الإقصاء التي بدأت تملأ نفوس الكل ضد الكل: الشيعي ضد السني، والسني ضد الكردي وهذا الأخير ضدهما معا وضد المسيحي الذي لم يعد يتأقلم مع سكان بلد كان مهدا للعديد من الحضارات. في ظل الاحتلال، وتحت أنظار ضباط مخابراته وتشجيعاتهم، تحول العراق إلى ثلاثة عراقات: عراق الشيعة وعراق السنة وعراق الأكراد. العراق اليوم مقسم بالفعل إلى ثلاث دويلات، وكل دويلة تخطط وتسعى لحماية طائفتها وتقويتها في مواجهة الطائفتين الآخر تين. ولأن ضعف السلطة المركزية وانفراط عقد الوحدة الوطنية يؤديان دوما إلى التدخل الأجنبي وإلى استقواء كل طائفة بالأجنبي في مواجهة الطوائف الأخرى، فقد فتحت كل أبواب العراق وحدوده وأجوائه ومياهه الإقليمية أمام كل التدخلات الأجنبية، وهجرت الصراعات الإقليمية إلى العراق لتتحول أرضه إلى ميدان فسيح لتصفية الحسابات بين دول الجوار، وبين بعض أتباع المذهبين الرئيسيين في الإسلام: السنة والشيعة، وبين عرب أمريكا وعرب التحرر، وبين دعاة التطبيع مع إسرائيل وبين من لازالت في نفوسهم بعض من النخوة العربية. أما عن الاحتلال، فقد سبق للرئيس أوباما أن أعلن عن البدء في سحب جيشه من العراق، وان كل قواته ستغادر خلال الشهرين التاليين، غير أن كل المعطيات تقول بأن الواقع على الأرض لا يمهد لمثل هذا الانسحاب وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيات التالية: أولا، أمريكا لم تذهب إلى العراق، ولم تصرف مئات الملايير من الدولارات وتخسر الآلاف من أفراد قواتها المسلحة فقط من أجل حمل الديمقراطية والرفاهية والحرية للعراقيين كما أعلن عن ذلك الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش الابن، بل ذهبت لتبقى هناك ولتسيطر على الأرض بموقعها الاستراتيجي وما تحت الأرض من ثروات معدنية وعلى رأسها الاحتياط الكبير من النفط؛ ثانيا، الولاياتالمتحدةالأمريكية هي من تدفع باستمرار نحو التعفن على المستوى السياسي ونحو المزيد من العمليات الإرهابية والتي لا يمكن أن نخلطها مع عمليات المقاومة العراقية الشريفة. هذا الوضع، هو جد مفيد لأمريكا لأنه يظهرها في صورة البلد المنقذ للعراق، وفعلا فقد بدأت العديد من الأصوات، بما فيها صوت السجين طارق عزيز أحد أهم رموز نظام صدام حسين، تطالب الولاياتالمتحدةالأمريكية بعدم مغادرة العراق وهو في هذه الحالة من التناحر. ثالثا، في حال انسحبت أمريكا فعلا من العراق فسيكون انسحابها مؤقتا ومن أجل التحضير لحرب على إيران لأن أمريكا تدرك أنها لا تستطيع القيام أو المشاركة في أي عمل عسكري ضد إيران ما دامت قواتها موجودة في العراق لأن هذه القوات ستكون تحت رحمة شيعة العراق الذين لم يدخلوا الحرب ضد القوات الأمريكية لحد الآن والذين سيتحولون، بمجرد فتوى من المصدر الشيعي بجواز الجهاد في الأمريكان، إلى قنابل متحركة تنفجر في أوجه الجيش الأمريكي. أمريكا تدرك هذا جيدا ولذلك فهي باقية في العراق إلى أن تكنسها المقاومة الوطنية العراقية الشريفة والنبيلة، وإذا حدث وانسحبت، في القريب العاجل، فسيكون ذلك إيذانا باقتراب موعد حرب تقوم بها ضد إيران لتعود بعدها مباشرة إلى العراق.