بقراءة سطحية أولية في تقرير لجنة مراقبة الانتخابات التشريعية، أو بالأحرى ما تسرب منه على لسان رئيسها وبعض أعضائها، يمكن الجزم دون تردد، أن أمام المشتغلين بالسياسة وأمر الأحزاب، وقت طويل ومسافة زمنية بعيدة، قبل أن ينافسوا حزب جبهة التحرير الوطني على أصوات الناخبين، وقبل أن يحدث التداول الذي يطمحون إليه، السبب في ذلك ليس لكون حزب جبهة التحرير الوطني متجذرا في كل الفئات الشعبية ومتمرسا على خوض الانتخابات بكفاءة أكثر من غيره، فحسب، ولكن بالأساس، لأن غالبية الأحزاب التي دخلت الانتخابات التشريعية، لا تحمل من صفات الحزب إلا التسمية مع كثير من المظاهر الخارجية الخداعة، التي لم تنطل على الناخبين هذه المرة، كما في السابق من المواعيد الانتخابية. سئل المرحوم عبد الحميد مهري، عن سر شحّه وتباعد انتقاداته الصائبة في أغلب الأحيان للسلطة، فأجاب، بأن السبب في ذلك يعود إلى خشيته إن هو أكثر من نقد السلطة، أن يحسب على ما يسمى بالمعارضة، والتي هي برأية أسوأ بكثير من الذين ينتقدهم ويعيب عليهم أداءهم، كلام الأستاذ المرحوم، يقف عليه المتابعون للشأن السياسي هذه الأيام، من خلال متابعة وقراءة ردود فعل الأحزاب الخاسرة في الانتخابات، والتي لا تعرف على أي رجل ترقص، بعد أن عاقبها الناخبون على الاستهتار بذكائهم، وبعد أن عاقبها الناخبون أيضا على استعجالها لافتكاك الأغلبية من حزب جبهة التحرير الوطني، دون أن تتهيأ لذلك، وتثبت للناخب جديتها وصدقيها في الحفاظ على الأمانة والوفاء بالوعود. إذا كان واضحا وملموسا لدى العام والخاص، ضعف الحياة السياسية في بلادنا، وقلة المهنية والحيلة لدى الذين يتصدون للشأن الحزبي عموما، فإن العديد من مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني يرون في ذلك خسارة كبيرة لحزبهم أولا وقبل كل شيء• فحزب جبهة التحرير الوطني الذي يعتبر نفسه حزب جميع الجزائريين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية، يشعر أنه الخاسر الأكبر، من عدم وجود معارضة قوية وفي المستوى الذي يتيح إقامة وإنعاش حياة حزبية سياسية، يكون التنافس فيها بين البرامج والأهداف ومدى القدرة على تنفيذها وفي الآجال، بل أن بعض القيادات التنظيرية في الحزب، تفسر بعض المتاعب الحزبية الداخلية، بغياب المنافس القوي، مما حور النضال في الحزب وأثر عليه سلبا. فإذا كانت أحزاب المعارضة أحزابا بالفعل، وتتوفر على المناضلين المؤمنين بأفكارها وبرامجها، لماذا تركت ما تسميه بالتزوير يحدث في المكاتب والمراكز الانتخابية..ولماذا لم يشهد المراقبون ولم يسمع المتابعون بأي مشكل جوهري خلال سير الانتخابات وبعدها؟.. بل أن بعض أحزاب المعارضة كانت تبارك وتزكي العملية الانتخابية برمتها، إلى ساعة إعلان النتائج، فاكتشفت فجأة أنها مزورة، وطالها الغش! المنّاحة الكبرى والبكائية الحزبية التي تعزفها بعض الأحزاب، لا تبعث على الشفقة فقط، وإنما تستدعي من هذه الأحزاب وقيادات أركانها، مراجعة شاملة وجذرية لنهجها وأساليب ممارستها للسياسة وللمعارضة، التي هي أيضا، فن له أصوله وقواعده المعروفة. الإصلاح والتغيير العميق والشامل، لا يجب أن يقتصر على السلطة والنظام فقط، وإنما يتعين أن يمس المعارضة، ويكون ذلك بإعادة التأسيس لأحزاب فعلية، تقوم على برامج واقعية، ويقودها مناضلون مشهود لهم بالصدق والنزاهة والكفاءة، حينذاك وساعتها فقط يمكن مباشرة الحديث عن حياة سياسية وحزبية بالمواصفات والمعايير المتعارف عليها، وسيكون حزب جبهة التحرير الوطني أول المستفيدين والفائزين في الطبعة الجديدة، لأنه في الديمقراطيات الحديثة والمعاصرة، لا استقامة للحياة السياسية إلا بوجود معارضة قوية.