لم تيسر لي الوقوف المتأني على إنتاج الدكتور علي أحمد سعيد إسبر، والذي يروى أن زعيم الحزب السوري القومي أنطوان سعادة هو الذي أنعم عليه بلقب "أدونيس"، وهو الاسم الذي عرف به في الأوساط الأدبية والإعلامية، وعدم احتفائي بإنتاج "أدونيس" له، في تقديري، سبب وجيه، فالتيار القومي العربي واليساري منه على وجه الخصوص، وجد نفسه في تيه بعد سقوط جدار برلين، وجفت كل الأغصان التي كان تعلق بها، وترنحت أساسات البناء الذي أقام عليه مجده الفكري والسياسي... لم يعد ممكنا التسويق للحزب الطلائعي، والنخبة المتنورة، لم يعد التبشير بحكم "البروليتاريا"، والجماهير الكادحة عملة تصرف في سوق يضج بالحديث عن الديمقراطية سياسيا، وانفتاح الأسواق اقتصاديا، والترويج للعولمة ثقافيا، لقد بقي الثابت الوحيد لدى جماعة "رفقاء" الأمس هو معادة التراث، لكن هذه المرة بمقولات جديدة، وتحت مسميات جديدة، لقد بحث الرفاق عن قاسم مشترك مع عدو الأمس الإمبريالي، ووجدوا ضالتهم، فالتراث هو ملهم الإرهاب، ومنبع التخلف، ومصدر كل الشرور، فكما كان بالأمس أفيونا مخدرا للشعوب، فهو اليوم فتيل إشعال نيران الحركات الظلامية... وهكذا خرج أغلب الرفاق من جلودهم، فكما أدووا دور العراب للنظم الثورية، هم اليوم دعاة التبشير بحقوق الإنسان والديمقراطية لابتزاز السياسيين، والتلويح لهم بمقدرتهم على عقد التحالفات مع الشيطان لإخضاعها، وهم في إعلان "ممانعتهم" في وجه ثقافة الأمة ورصيدها الحضاري، يخلطون بين الفكري والسياسي، فالصراع مع جماعات ما يعرف بالإسلام السياسي، يخلط عن عمد مع التراث الحضاري للأمة، واستئصال جزء مريض من عضو، يخلط عمدا مع القضاء على الجسم كله، بدعوى أن الجسم هو الحامل للعضو المريض! هذه أسباب وجيهة، في ما أعتقد، جعلتني لا أحفل كثيرا بما يصدر عن أصحاب تلك الأفكار، وأزهد في إنتاجها، لأنه إنتاج يولد قسرا، يشوبه التخبط وتدفعه حاجة الحفاظ على المصالح الطرفية، وينأ بواقع حاله عن قلق الفكر الرصين المستشرف للمستقبل... وعندما قرأت الإعلان عن محاضرة "أدونيس" بالمكتبة الوطنية، لم استطع مقاومة الإغراء في الاستماع المباشر منه "فما راء كقد سمع"، ولقد أعجبت بأدونيس واحترمته، لاحترامه وتقديره للغة العربية وتمسكه بقواعدها، وإلقائه لمحاضرته في بلاغة نثرية شاعرية رائعة، لكن مضمون المحاضرة لم يغادر المنهج المتسلل لوذا، ليوجه سهام ناقده ومركزة إلى صدر التيار العام السياسي والفكري والاجتهادي في العالم الإسلامي، منطلقا من الواقع الراهن ليثبت أنه نتاج خط عام بدايته من الدولة الإسلامية التاريخية، بل من يوم وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فالمهاجرون "بدافع قبلي" أقصوا الأنصار من الشأن السياسي، وحمل المؤسسة الدينية التقليدية (السنية) سلبيات الجمود في المسيرة التاريخية والمعاصرة... أدونيس تحاشى الإجابة عن استفسارنا عن دوافع الخلط بين تاريخ حضاري، اعترف العدو قبل الصديق بأنه يمثل عصرا ذهبيا مشرقا، هو غير معصوم ولا منزه عن الأخطاء، لكنه دفع مسيرة الإنسانية في قفزات عملاقة، بدل من ذلك راح أدونيس يوقع شهادة وفاة الأمة، وأنها لا تعدو كونها كما عدديا ذاب في غيره، وهذا تدليس لمنطق الرصد الحضاري، فمقومات الوجود من لغة ودين، وعواطف متأججة في نفوس الشعوب، وإن انطفأت في المشهد السياسي، كل ذلك يدحض دعاوى التسليم بموت الأمة... ومنذ سنوات بدت طموحات أدونيس وتطلعاته إلى جائزة نوبل، بدت تظهر من خلال أطروحاته العولمية، وفي التهوين من أمر احتماء الأمة العربية والإسلامية بتاريخها، بل ذهب إلى القول بأن دولة إسرائيل تشجع انحياز الأمة لدينها، وهو كلام مضحك، تكذبه الدلائل والوثائق الإسرائيلية نفسها، ومن ذات المنطلق راح يقول أنه لا يعرف شيئا عن حركة حماس الفلسطينية، لأنه لم يعش الواقع الفلسطيني، يقول هذا وهو الذي استطاع أن يحاكم خمسة عشر قرنا كاملة، وهو لم يعش تلك القرون كلها بطبيعة الحال، وسأكون مستعدا لفهم موقف أدونيس في ضوء تحركاته السابقة، خاصة لقاءه مع المثقفين الإسرائيليين واليهود في غرناطة سنة 1993، بحضور مهندسي أوسلو شمعون بيريز والراحل ياسر عرفات... لقد بدأ أدونيس رحلة تسويق نفسه دوليا، يوم كانت رحى الحرب الأهلية اللبنانية، تدمر كل شيء، يوم حل الشاعر والمفكر ضيفا على قلعة الاستشراق الأوروبي، فتولت إصدار طبعة "أورو- أراب" من كتابات أدونيس، وتولى جاك بيرك ترجمة شعره الحداثي، ومن رحلته الأوربية في الثمانينات إلى التطلع للعولمه في التسعينات، استمر تقديم التنازلات... أدونيس يرى في شعر أبي نواس نموذج للشعر الإنساني، ولهذا فهو يوبخ المجتمع العربي لربطه الشعر بالقيم وبمنظومته الحضارية، ويعترض بشدة على بنية الشعر العربي المعروفة، ويشجب الالتزام بالوزن والقافية، ولا يرى في شعراء العربية المحدثين، ممن يلتزم بمبنى القصيد العربي إلا صرعى الكلاسيكية الجامدة، و يباهي بمساهمته في اختراع شعر الحداثة، وبخروجه على تاريخ الأمة، ونقضه لرؤيتها الشعرية... أدونيس يدرك أن جائزة نوبل تم تسييسها، فقد منحت لنجيب محفوظ، مثلا، ليس لأنه أكبر روائي عربي، وإنما لأنه كان مؤيدا للسادات، ومتحمسا لصلحه مع إسرائيل، صلح غير عادل مع العرب، وقد منحت الجائزة ليهود يكتبون بالعبرية اليديشية التي يتكلمها بضعة آلاف من اليهود، ومنحت لروائيين روس ك"سولجستين"، ليس لأنهم كانوا عباقرة في الرواية، وإنما لأنهم كانوا "عباقرة" في رفضهم الاشتراكية الماركسية، فالجائزة في النهاية سقوط حر في أتون السياسة وفق المنظور الإسرائيلي اليهودي، والترشح لها يوزن بمقدار التنازلات المقدمة..