الجزائر والمغرب هما في حاجة ماسة إلى بعضهما-سياسيا ونخبويا وشعبيا-للتطور واكتساب القوة، هذا صحيح، ولكنهما لن يصلا إلى ذلك عبر الممرات الضيقة أو المسالك الملغّمة، إنما عن طريق إقامة طريق سليم مزدوج آمن، يستفيد كلاهما منه، ويتحملان معا تبعاته ومتاعبه وآثاره الجانبية ... كانت الشعوب المغاربية تنتظر من "أمير المؤمنين" أن يعلن عن نهاية الانسداد الذي أدخلت فيه السياسة المغربية بلدان المغرب العربي فسجنتها لمدة ثلاثة وثلاثين عاما في "معتقل" القضية الصحراوية، منذ أن هرّب القصر مشاكله وأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى الصحراويين في إطار ما أسماه المسيرة الخضراء، فأجهض حلم أجيال متعاقبة من أبناء الشمال الإفريقي الذين كانوا يرون وحدتهم الكاملة-التي اختطتها دماؤهم بعدما أكدتها جغرافيتهم-رؤية العين، وأنها أقرب إليهم من أي مسعى آخر، غير أن الملك"الشاب"أعاد لهم وفيهم تحريك الجراح القديمة - التي لم يكن سببا في إحداثها-وكأن بطانته تريد له أن يعيد تثوير الألم من جديد ليهز الكيان المغاربي فيؤخرعنه رؤية المستقبل الذي طال انتظاره . جلالة الملك" الصغير" يبدو أن أفكاره شاخت قبل أوانها، فهو يدعو الجزائر من جهة، إلى تطوير علاقاتها مع المغرب لأن "التحولات الإقليمية والعالمية تفرض التكتّل لدفع ما يواجه المنطقة من تحديات تنمية مصيرية وأمنية"، ومن جهة أخرى، يتهمها بأنها "تسخر طاقاتها لتكريس الوضع الراهن المشحون ببلقنة المنطقة المغاربية والساحلية"، ويتوعّدها في الوقت نفسه بأن "المغرب سيظل ُمعوّلا على ذاته والتمسك بحقوقه والتحلي باليقظة المستمرة ومواصلة التعبئة الشاملة ووحدة الجبهة الداخلية التي هي مصدر قوتنا"، صحيح أن التصريح جاء بعد الزلزال الديمقراطي الذي أوصل إلى البيت الأبيض الأمريكي َمن يعتقد القصر الملكي أنه قد ُيغيّر الموقف الخاطئ الذي اتخذته إدارة المحافظين الجدد المنصرفة إزاء القضية الصحراوية، ولكنه تأكيد من الإدارة الملكية على أن السير في الطريق الخطأ هو الثابت في السياسة المغربية حيال المسألة . إن المشكل الصحراوي لم يكن مطلقا قضية تمرد داخلي أو ثورة إقليم يقوم بها دعاة انفصال، إنما هو مشكل تصفية استعمار تعالجه الأممالمتحدة، ومن ثم جاءت مواقف الجزائر التي لم تكن وليدة مزاج مرحلة سياسية أو انحياز أيديولوجي أو طمع ترابي، بينما يريد المغرب أن يبعدها عن كواليس الأممالمتحدة، وينفرد بحلها ولو بإشراك بعض أهل الزور، حتى وإن كانت الأراضي الصحراوية تبعد عنه جغرافيا، وتخالفه الخصوصيات السياسية و الثقافية، في حين لا يتحدث عن مدينتي سبتة ومليلة اللتين تقعان في قلب المملكة، ويعتبر احتلالهما شوكة تؤلم الجزائريين كلهم كما تدمي قلوب المغاربة، وتنتظر الجزائر إشارة البدء من المغرب في الدفاع المشروع من أجل استردادهما عندما يرغب في ذلك، ولكنه يبدو أنه يفضل حتى الآن الهروب إلى جغرافيا يعتقد أنها آمنة بممرات تاريخية عن الدخول في حقيقة جغرافيا مكهربة حتى لو أكدتها سيادة الدولة وإرادة الشعب. v إن الموقف المغربي المتجدد لم يتطور إلا من حيث تكراره اتهام الجزائر، وكأنها هي من احتل الصحراء الغربية أو من شرّد الشعب الصحراوي وحوّل أكثر من نصفه إلى لاجئين في مناطق الجوار، بينما اللقاءات الإقليمية والاجتماعات الدولية والدورات الأممية تشهد كلها على صدق الجزائر في البحث عن حل نهائي لهذه القضية المؤلمة، وهي عندما تساند مطلب الداعين إلى إجراء استفتاء تقرير المصير، فإنها لا تملك نتيجته المرتقبة، فقد يصوت الصحراويون لصالح الانضمام إلى المملكة، وقد يرون أن الحكم الذاتي كما يطرحه المغرب هو أنسب لهم، وقد يفضلون الانفصال وتكريس دولتهم التي ضحوا من أجلها لأكثر من ثلاثين عاما، ثم إذا كان المغرب متأكدا من مغربية صحراويي الصحراء الغربية – الذين ُيقر بخصوصياتهم من خلال مشروع الحكم الذاتي الذي يصر على تقديمه- فلماذا يخاف كل هذا الخوف من إجراء استفتاء هو مجرد إعادة بعض العاقين؟ويظل في مفاوضاته مع جبهة البوليساريو يتمسك بمقترح وحيد هو القبول بطرحه غير القابل للتفاوض ثم يقول إن الجزائر هي التي أجهضته؟!؟ إذا كان المغرب هو من أسّس لغلق الحدود بينه وبين الجزائر منذ أن اتخذ -عام 1994- قراره بفرض التأشيرة على الجزائريين فجأة ودون سابق إنذار مما عرّض أكثر من مليون سائح منهم كانوا في المملكة، إلى إهانات لا تتماشى لا مع "الأخوّة وحسن الجوار" ولا مع "التمسك بحقوق الإنسان في حرية التنقل والتبادل" ولا مع "حتمية الاندماج المغاربي" فإن الجزائرفي دعوتها-بتعقل وحكمة- إلى دراسة كافة الملفات، فإنها تسعى إلى إقامة صرح قوي للشعبين الجزائري والمغربي لا يتأثر بتقلب الأهواء السياسية في العاصمتين، ولا تستفيد منه جهة دون الأخرى أو تتحمل فيه منطقة متاعب المنطقة الأخرى وأخطاءها . إذا كان الجفاف المالي ضرب المملكة منذ لحظة التهوّر التي سبقت إغلاق الحدود مما أدخل ُجلّ سكان المنطقة في قوائم المصابين بسوء التغذية ، فإنه لولا " رذاذ" الوقود المهرّب إلى أشقائنا لهلك كثير منهم بطالة أو جوعا، بعدما تحولت المنطقة كلها - التي ازدهرت في أقل من خمس سنوات- إلى ما يشبه الأطلال، ولعل ذلك ما جعل جارنا الملك لا يفرق في خطابه بين الحق والباطل في مسألة العلاقات الجزائرية المغربية ...